ولعمري إن ذلك لموجودٌ في الفطرة، قائم في العقل: أن من كفرنعم الخلق كان لنعم الله أكفر؛ لأن الخلق يعطي بعضهم بعضاً بالكلفة والمشقة، وثقل العطية على القلوب، والله يعطي بلا كلفة. ولهذه العلة جمع بين الشكر له والشكر لذوي النعم من خلقه.
فلما وجبت على الحجة بشكرك، وقطع عذري في مكافأتك، اعترفت بالتقصير عن تقصي ذلك، إلا أني بسطت لساني بتقريظك ونشر محاسنك. موصولٌ ذلك مني عند السامعين بالاعتراف بالعجز عن إحصائها.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أودع عرفاً فليشكره، فإن لم يمكنه فلينشره، فإذا نشره فقد شكره، وإذا كتمه فقد كفره ".
ثم رأيت أن قد بقي علي أمرٌ من الأمور يمكنني فيه برك، وهو عندي عتيد، وأنت عنه غير مستغنٍ، والمنفعة لك فيه عظيمة عاجلة وآجلة إن شاء الله.
ولم أزل أبقاك الله بالموضع الذي قد عرفت، من جمع الكتب ودراستها والنظر فيها، ومعلومٌ أن طول دراستها إنما هو تصفح عقول العالمين، والعلم بأخلاق النبيين، وذوي الحكمة من الماضين والباقين من جميع الأمم، وكتب أهل الملل.
فرأيت أن أجمع لك كتاباً من الأدب، جامعاً لعلم كثيرٍ من المعاد والمعاش، أصف لك فيه علل الأشياء، وأخبرك بأسبابها وما اتفقت عليه محاسن الأمم.