الرسائل للجاحظ (صفحة 293)

أعمالكم وفق علومكم؛ لأنَّ كلَّ من بذل كلَّ مجهوده، وخاطر بجميع نعمته، وكانت الواحدة من نعمه كالجميع من نِعم غيره، مع خذلان الموافق ونكوص المؤازر، ثم لم تزدْه الشدائد إلاَّ شدَّة، والوحدة إلا أنسة حقيقٌ بالتَّفضيل والتعظيم، والإنابة له بالتقديم.

ولعل قائلاً أن يقول: أدخله في جملة صفات أبيه، وجلَّة مشيخته وأقربيه، حيث خصَّهم بالتقديم، وأبانهم بالتعظيم. بل كيف يقدَّم من صغرت سنُّه وقلَّت تجربته على من تقاربت سنُّه وكثرت تجربته. وكيف تمكن الطاعة الكثيرة في الأيام القصيرة والشهور اليسيرة؟ وهل يقول ذلك صاحب تحصيلٍ ومقايسة، والبعيد من الملق والمخادعة.

وما قلت ذلك - حفظك الله - ولا انتحلته، إلا وبرهاني حاضر، وشاهدي شاهد. وذلك أنَّ للشَّباب سكرة وطماحاً، وقراعاً وصولة. والهرم داخلٌ على جميع الأعضاء، وآخذ بقسطه من جميع الأجزاء. ألا ترى كيف يكلُّ ناظره وسامعه، وذائقه وشامُّه، وهاشمه وعامله؛ وكيف تُنقص على مرور الأيام قوّته، وكذلك قلبه وكلُّ ما بطن من أمره، على قدر ما نقص من قُوى جسمه وتُنُقِّص من قوى شهوته. ويخفُّ عليه مخالفة هواه، ومحاربة نوازعه. ومن حمل على نفسه في كمال شبابه وأيَّام سكرته، وفي سلطان حدَّته وكمال قوَّته، فظلفها مرّةً وكبحها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015