الرسائل للجاحظ (صفحة 288)

وقد كتبت - مدَّ الله في عُمرك - في الردِّ على المشبِّهة كتاباً لا يرتفع عنه الحاذق المستغني، ولا يرتفع عن الريِّض المبتدئ. وأكثر ما يعتمد عليه العامة ودهماء أهل التشبيه من هذه الأمور ويشتمل عليه الفضْل من حُشْوة الناس، ويُختدع به المحدثون من الجمهور الأعظم، تحريف آيٍ كثيرةٍ إلى غير تأويلها، ورواياتٍ كثيرة إلى غير معانيها. وقد بيَّنت ذلك بالوجوه القريبة، والدلالات المختصرة، وبالأشعار الصحيحة والأمثال السائرة، واستشهدت الكلام المعروف، والقياس على الموجود.

وهو مع ذلك كلِّه كتابٌ قَصْدٌ، ومقدار عدلٌ، لم يفضلْ عن الحاجة، ولم يقصِّر عن مقدار البُغية. على أنَّ الكلام لا ينبغي أن يكثر وإن كان حسناً كلُّه، إذا كان السامع لا ينْشَط له، وجاز قدر احتماله؛ لأنَّ غاية المتكلِّم انتفاع المستمع. وقد قال الأولون: " قليل الموعظة مع نشاط الموعوظ، خيرٌ من كثيرٍ وافق من الأسماع نبوةً، ومن القلوب ملالةً ".

وقال بكر بن عبد الله المزنّي: ليس الواعظ من جهل أقدار السامعين، وإنابة المرتدِّين، وملالة المستطرفين.

وقال علي بن أبي طالبٍ، رضوان الله عليه: " إن هذه القلوب تمُّل كما تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طُرف الحكمة ".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015