دليلا، ومع كلّ خفيّ من الحقّ حجّة ظاهرة، تستنبط لها غوامض البرهان وتستبين بها دقاق الصّواب، وتستشفّ بها سرار القلوب، فتأتي ما تأتي عن بيّنة، وتدع ما تدع عن خبرة، ولا يكون بك وحشة إلى معرفة كثير مما يغيب عنك، إذا عرفت العلل والأسباب، حتّى كأنك مشاهد لضمير كل امريء لمعرفتك بطبعه وما ركّب عليه، وعوارض الأمور الداخلة عليه ثمّ، غير راض لك بالأصول حتّى أتقصى لك ما بلغه علمي من الفروع. ثم لا أرسم لك من ذلك [إلّا] الأمر المعقول في كل طبيعة، والموجود في فطر البرايا كلّها. فإن أحسنت [رعاية] ذلك وأقمته على حدوده، ونزّلته منازلة، كان عمرك- وإن قصرت أيامه- طويلا، وفارقت ما لا بدّ لك من فراقه محمودا، إن شاء الله.
واعلم أنّ الآداب إنّما هي آلات تصلح أن تستعمل في الدّين وتستعمل في الدنيا، وإنّما وضعت الآداب على أصول الطباع. وإنّما أصول أمور التدبير في الدّين والدّنيا واحدة، فما فسدت فيه المعاملة في الدّين فسدت فيه المعاملة في الدنيا، وكلّ أمر لم يصحّ في معاملات الدّنيا لم يصح في الدّين. وإنّما الفرق بين الدين والدّنيا اختلاف الدارين من الدّنيا والآخرة فقط، والحكم هاهنا الحكم هناك، ولولا ذلك ما قامت مملكة، ولا ثبتت دولة، ولا استقامت سياسة.
ولذلك قال الله عزّ وجل: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا
، قال ابن عباس في تفسيرها: من كان ليس له من العقل ما يعرف به كيف دبّرت أمور الدنيا، فكذلك هو إذا انتقل إلى الدّين، فإنّما ينتقل بذلك العقل. فبقدر جهله بالدّنيا يكون جهله بالآخرة أكثر، لأن هذه شاهدة وتلك غيب، فإذا جهل ما شاهد فهو بما غاب عنه أجهل.
فأوّل ما أوصيك به ونفسي تقوى الله، فإنّها جماع كلّ خير، وسبب كلّ نجاة، ولقاح كلّ رشد. هي أحرز حرز، وأقوى معين، وأمنع جنّة. هي