وقد روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «من أودع عرفا فليشكره، فإن لم يمكنه فلينشره، فإذا نشره فقد شكره، وإن كتمه فقد كفره» .
ثم رأيت أن قد بقي عليّ أمر من الأمور يمكنني فيه برّك، وهو عندي عتيد، وأنت عنه غير مستغن، والمنفعة لك فيه عظيمة عاجلة وآجلة إن شاء الله.
ولم أزل أبقاك الله بالموضع الذي قد عرفت، من جمع الكتب ودراستها والنّظر فيها، ومعلوم أنّ طول دراستها إنما هو تصفّح عقول العالمين، والعلم بأخلاق النبيّين، وذوي الحكمة من الماضين والباقين من جميع الأمم، وكتب أهل الملل.
فرأيت أن أجمع لك كتابا من الأدب، جامعا لعلم كثير من المعاد والمعاش، أصف لك فيه علل الاشياء، وأخبرك بأسبابها وما اتفّقت اليه محاسن الأمم.
وعلمت أنّ ذلك من أعظم ما أبرك به، وأرجح ما أتقّرب به إليك.
وكان الذي حداني على ذلك ما رأيت الله قسم لك من الفهم والعقل، وركّب فيك من الطّبع الكريم.
وقد أجمعت الحكماء أنّ العقل المطبوع والكرم الغريزيّ لا يبلغان غاية الكمال إلّا بمعاونة العقل المكتسب. ومثلوا ذلك بالنّار والحطب، والمصباح والدّهن. وذلك أنّ العقل الغريزيّ آلة والمكتسب مادّة، وإنّما الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك.
ورأيت كثيرا من واضعي الآداب قبلي قد عهدوا إلى الغابرين بعدهم في الآداب عهودا قاربوا فيها الحقّ، وأحسنوا فيها الدلالة، إلّا أنّي رأيت أكثر ما رسموا من ذلك فروعا لم يبيّنوا عللها، وصفات حسنة لم يكشفوا أسبابها، وأمورا محمودة لم يدلّوا على أصولها.