والنّدامة الطويلة والحسرة في الآجل.
وخرجت نسيج وحدك، أوحديّا في عصرك، حكّمت وكيل الله عندك- وهو عقلك- على هواك، وألقيت إليه أزمّة أمرك، فسلك بك طريق السّلامة، وأسلمك إلى العاقبة المحمودة، وبلغ بك من نيل اللذّات أكثر مما بلغوا، ونال بك من الشّهوات أكثر مما نالوا، وصرّفك من صنوف النّعم أكثر مما تصرّفوا، وربط عليك من نعم الله التي خوّلك ما أطلقه من أيديهم إيثار اللهو وتسليطهم الهوى [على أنفسهم] ، فخاض بهم سبل تلك اللّجج، واستنقذك من تلك المعاطب، فأخرجك سليم الدّين، وافر المروءة، نقيّ العرض، كثير الثّراء، بيّن الجدة. وذلك سبيل من كان ميله إلى الله تعالى أكثر من ميله إلى هواه.
فلم أزل [أبقاك الله] في أحوالك تلك كلّها بفضيلتك عارفا، ولك بنعم الله عندك غابطا، أرى ظواهر أمورك المحمودة فتدعوني إلى الانقطاع إليك، وأسأل عن بواطن أحوالك فتزيدني رغبة في الاتّصال بك، ارتيادا مني لموضع الخيرة في الأخوّة، والتماسا لإصابة الاصطفاء في المودّة، وتخيّرا لمستودع الرّجاء في النّائبة.
فلما محضتك الخبرة، وكشفك الابتلاء عن المحمدة، وقضت لك التّجارب بالتّقدمة، وشهدت لك قلوب العامّة بالقبول والمحبّة، وقطع الله عذر كلّ من كان يطلب الاتّصال بك، طلبت الوسيلة إليك والاتّصال بحبلك، ومتتّ بحرمة الأدب وذمام كرمك. وكان من نعمة الله عندي أن جعل أبا عبد الله- حفظه الله- وسيلتي إليك، فوجدت المطلب سهلا والمراد محمودا، وأفضيت إلى ما يجوز الأمنيّة ويفوت الأمل، فوصلت إخاي بمودّتك، وخلطتني بنفسك، وأسمتني في مراعي ذوي الخاصّة بك، تفضّلا لا مجازاة، وتطوّلا لا مكافأة، فأمنت الخطوب، واعتليت على الزّمان، واتخذتك للأحداث عدّة، ومن نوائب الدهر حصنا منيعا.