ولم صار يتمنّى الشّيء وينذر فيه النّذور، ويتقطّع إليه شوقا، فإذا ظفر به صدّ عنه وأخلق عنده؟ ولم زهد الملوك فيما في أيديهم ورغبوا فيما في أيدي الناس؟

فنقول: إن الله تبارك وتعالى جعل لكلّ نفس مبلغا من الوسع لا يمكنها تجاوزه، ولا تتّسع لأكثر منه. فكان معها فيما دون الوسع الفقر وخوف الإخوان، وفيما تجاوزه عزّ الغنى وأمن العدم. وبهذا وبمثله من البخل والحرص استخفّت من احتاج إليها، وأعظمت من استغنى عنها. وجعلها توّاقة مشتاقة، متطرّفة ملّالة، كثيرة النزاع والتقلب، تستحكم عليها الفتنة، ويبلى خيرها [من شرّها] وصبرها من جزعها. ولولا هذه الخلال سقطت المحن، فهي تعظّم القليل بالضّرورة إليه إن كان من أقواتها، أو لشدّة النّزاع والشوق إن كان من طرف شهواتها، فإنّ صنوف الشهوات كثيرة، ولكلّ صنف منها أهل لا يحفلون بما سواه. وتتعجّب من الغريب النادر، ويضحكها البديع الطارىء. إلا أنّه إذا كثر الغريب صار قريبا، وإذا تجاوز المطلوب مقدار وسعها وحاجتها فصار ظهريّا وفضلا استخفّت به وقلّ في أعينها كثيره. وأعظم الأشياء عندها قدرا ما اشتدّ إليه الفقر والحاجة وإن قلّ قدره، وأهونها عليها ما استغني عنه وإن عظم خطره. وجعل لما تتوق إليه واشتاقه مكانا من قواها، له. فإذا امتلأ ذلك المكان سرورا، وقضى ذلك الأرب وطرا مما كا طمح إليه، وروي مما كان ظامئا إليه، انصرف عنه وقلاه، وحال عشقه بغضا، وشوقه ملالا.

والعلّة في ذلك: أنّ الدّنيا دار زوال وملال، ليس في كيانها أن تثبت هي ولا شيء مما فيها على حال واحدة، وإنّما الثّبوت الدائم لدار القرار.

فالسآمة تلحقها في محبوبها، كما يصيب المنتهى من الطعام والشراب والباه، فإنه ليس شيء أبغض إلى من يتناهى فيه إلى غايته، من النّظر إلى ناحيته،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015