والذي جربناه ووجدناه: أنّ من يفضى إليه بالشيء، يبلغ من إذاعته ونشره ما لا يبلغه الرسول المستحفظ المعنىّ بتبليغ الرسالة، المحمود المجازى على أدائها، حتّى ربّما كان يبلغ في الإذاعة لمن أرادها أن يقصد للبلّاغة من الرجال، المعروف بالنّميمة والتقتيت، فيوهمه أنه قد استحفظه السرّ، فيشيع على لسانه كما يشيع الضوء في الظّلمة.
وهذا فعل عمر بن الخطّاب رضى الله عنه حين أحبّ أن يشيع إسلامه فقال: من أنمّ أهل مكة؟ قيل له: جميل بن النّحيت. فأتاه فأخبره بإسلامه وسأله ان يكتمه عليه، فلم يمس وبمكّة أحد لم يعلم بإسلام عمر، رضي الله عنه.
ثم يكون من أكثر الأعوان على إظهار السرّ الاستعهاد له، والتّحذير من نشره، فإنّ النّهى أغرى، لأنّه تكليف مشقّة، والصبر على التكليف شديد، وهو حظر، والنفس طيّارة متقلّبة، تعشق الإباحة وتغرم بالإطلاق.
ولعلّ رجلا لو قيل له: لا تمسح بهذا الجدار- وهو لم يمسحها به قطّ- غري بأن يفعل.
وكذلك ما حدّث به من السرّ فلم يؤمر بستره، لعلّه ألّا يخطر بباله، لأنّه موجود في طبائع الناس الولوع بكلّ ممنوع، والضّجر بكل محصول.
فنريد أن نعلم: لم صار الإنسان على ما منع- وإن كان لا ينفعه- أحرص منه على ما أبيح من غير علّة ولا سبب إلّا امتهان ما كثر عليه، واستطراف ما قلّ عنده؟ ولم أقبل على من ولّى عنه وولّى عمّن أقبل عليه؟ ولم قالوا: إذا جدّت المسألة جدّ المنع؟ وقال الشاعر:
الحرّ يلحى والعصا للعبد ... وليس للملحف مثل الرّدّ