وبحضرته محمد بن أبي العبّاس الطّوسي، فانبرى للطّعن عليه والمعارضة للحجج التي فيه، وأسهب في ذلك وخطب، وأكثر وأطنب، فقلق المأمون واحتدم، وهاج واضطرم؛ لاستحقار الطّوسي وخلاء المجلس له، وكان يحبّ أن يزعه وازع يكفّه بحجّة تسكته، فلما لم ير أحدا بحضرته يذبّ عن كتابي قال متمثلا:

يا لك من قبّرة بمعمر ... خلا لك الجوّ فبيضي واصفري

ونقرّي ما شئت أن تنقّري

فما كان إلّا ريث فراغه من التمثّل بهذه الأبيات حتى استؤذن لي فدخلت عليه، فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما تقول في النبيذ؟ فقلت: حلّ طلق يا أمير المؤمنين. فقال: فما تقول فيما أسكر كثيره؟ قلت: لعن الله قليله إذا لم يسكر [إلّا] كثيره. ثم قال: إنّ محمدا يخالفك. فأقبلت على ابن أبي العباس فقلت له: ما تقول فيما قال أمير المؤمنين؟ قال: لا خلاف بيني وبينك [و] كلاما يوهم به أهل المجلس، حبّا للتسلّم منّي والتخلّص من مناظرتي، لا على حقيقة التحليل له. فاستغنمت ذلك منه وقلت له: فما لي لا أرى أثر قواه في عقلك؟ فضحك المأمون، فلمّا رأيت ضحكه أطنبت في معاني تحليل النبيذ، وابن أبي العباس ساكت لا ينطق، وكان قبل دخولي ناطقا لا يسكت. فلما رأى المأمون سكوته عند حضوري مع كثرة كلامه في ثلب كتابي وعيبه- كان- قبل دخولي، قال متمثّلا:

ما لك لا تنبح يا كلب الدّوم ... قد كنت نبّاحا فما لك اليوم

[5- ابناء النعم محسودون]

ثم نظر إليّ فقال: إنّ الكتب عقول قوم وراءها عندهم حجج لها، فما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015