ما رسمت لنا الأوائل في كتبها، وخلّدت من عجيب حكمها، ودوّنت من أنواع سيرها؛ حتّى شاهدنا بها ما غاب عنا، وفتحنا بها المستغلق علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلّا بهم- لقد خسّ حظّنا في الحكمة، وانقطع سببنا من المعرفة، وقصرت الهمّة، وضعفت النيّة، فاعتقم الرّأي وماتت الخواطر، ونبا العقل.
وأكثر كتبهم نفعا، وأحسن ما تكلّموا به موقعا، كتب الله التي فيها الهدى والرحمة، والإخبار عن كلّ عبرة، وتعريف كلّ سيّئة وحسنة.
فينبغي أن يكون سبيلنا فيمن بعدنا كسبيل من قبلنا فينا. على أنّا قد وجدنا من العبرة أكثر ممّا وجدوا، كما أنّ من بعدنا يجد من العبرة أكثر مما وجدنا.
فما ينتظر العالم بإظهار ما عنده، والنّاشر للحقّ من القيام بما يلزمه.
فقد أمكن القول وصلح الدهر، وخوى نجم التّقيّة، وهبّت ريح العلماء، وكسد الجهل والعيّ وقامت سوق العلم والبيان.
وهذا الكتاب- أرشدك الله- وإن حسن في عيني، وحلا في صدري، فلست آمن أن يعتريني فيه من الغلط ما يعتري الأب في ابنه، والشّاعر في قريضه.
والذي دعاني إلى وضعه مع إشفاقي منه، وهيبتي لتصفّحك له، أنّي حين علمت أنّ الغالب على إرادتك، والمستولى على مذهبك، تقريب العالم وإقصاء الجاهل، وأنّك متى قرأت كتابا أو سمعت كلاما، كنت من وراء ما