صلاح الدّين والدّنيا إنّما يعتدل في نصابه، ويقوم على أساسه بالكتاب والحساب.
وليس علينا لأحد في ذلك من المنّة بعد الله الذي اخترع ذلك لنا ودلّنا عليه، وأخذ بنواصينا إليه، ما للمعلمين الذين سخّرهم لنا، ووصل حاجتهم إلى ما في أيدينا. وهؤلاء هم الذين هجوتهم وشكوتهم وحاججتهم وفحشت عليهم، وألزمت الأكابر ذنب الأصاغر، وحكمت على المجتهدين بتفريط المقصّرين، ورثيت لآباء الصّبيان من إبطاء المعلّمين عن تحذيقهم، ولم ترث للمعلّمين من إبطاء الصّبيان عمّا يراد بهم، وبعدهم عن صرف القلوب لما يحفظونه ويدرسونه، والمعلّمون أشقى بالصّبيان من رعاة الضّان وروّاض المهارة.
ولو نظرت من جهة النظر علمت أنّ النعمة فيهم عظيمة سابغة، والشكر عليها لازم واجب.
فصل منه: وأجمعوا على أنّهم لم يجدوا كلمة أقلّ حرفا ولا أكثر ريعا، ولا أعمّ نفعا، ولا أحثّ على بيان، ولا أدعى إلى تبيّن، ولا أهجى لمن ترك التفهّم وقصّر في الإفهام، من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه:
«قيمة كلّ امريء ما يحسن» .
وقد أحسن من قال: «مذاكرة الرّجال تلقيح لألبابها» .
وكرهت الحكماء الرؤساء، أصحاب الاستنباط والتفكير، جودة الحفظ، لمكان الاتّكال عليه، وإغفال العقل من التمييز، حتّى قالوا: «الحفظ عذق الذّهن» . ولأنّ مستعمل الحفظ لا يكون إلّا مقلّدا، والاستنباط هو الذي يفضي بصاحبه إلى برد اليقين، وعزّ الثقة.
والقضيّة الصحيحة والحكم المحمود: أنّه متى أدام الحفظ أضرّ ذلك بالاستنباط، ومتى أدام الاستنباط أضرّ ذلك بالحفظ، وإن كان الحفظ أشرف