القرآن لفظًا ومعنى؛ فمن كان قوةُ ظنِّ الإجماع عنده أقوى -كأبي ثور- قدَّمَ هذا الظن، ومن كان ظنُّه بكلام الله وعلمه وحكمته أتم، وأنَّ الله -تعالى- لا يُفرِّقُ بين المتماثلين ولا ينقض العلة لغير مخصصٍ معنوي، وكان -أيضًا- إذا رجعَ إلى نفسهِ لم يَجد عنده اعتقادًا بنفي النزاع يقاوم هذا الاعتقاد الذي عَلِمَهُ من كلام الله وكلام رسوله - حَكَمَ بأنَّ الأمةَ لا تجتمع على مثل هذا، وأنها معصومه أن تجتمع على خطأ.
والفرق بينَ المتماثلين ونقض العلة بدون مخصص معنوي تُنَزَّهُ الأمةُ أن تجتمع عليه؛ كما نَزَّهَ الله -عزَّ وجلَّ- رسولهُ - صلى الله عليه وسلم - أن يكونَ في حُكمِهِ مثل هذا التعارض الذي يوجب القدح في أحدها؛ إمَّا في دلالة الكتاب والسنة لفظًا ومعنى، وإمَّا في دلالة الإجماع، وكلٌّ من الدلالتين صحيحة، والحقُّ لا يَتعارضُ (?).
ثم إذا نظرَ في كلِّ إجماع معلوم وجده موافقًا للنصوص لا مخالفًا لها، ولا تجد قطُّ إجماعًا يخالفُ دلالة الكتاب والسنة إلا ومع الإجماع دلالة أخرى من الكتاب والسنة توجب ترجيحها على الأول، فيكون أحدُ النصين ناسخًا للآخر، إمَّا دفعًا لحكمه -وهو النسخ الخاص-، وإما دفعًا لظاهر دلالته -وهو النسخ العام-؛ وهذا أصلُ أحمد بن حنبل وغيره من سلف الأمة وأئمتها المتبعين للصحابة لا يعارضون قط دلالة كتاب وسنة بإجماعٍ، كما فعل أبو ثور وأمثاله (?).