قدر صاحبها واِستحقاقه شكر الناس له إعراباً صحيحاً لا شكّ فيه ولا خلاف عليه، ولكن ذلك لأنّي رأيت مثل هذا الاِعتراف الجميل يصدر عن إنسان آخر على خلاف المألوف في طبائع أغلب الناس، خصوصاً في هذا الزمان، فإنّه قلّما يعترف واحد لغيره بفضل أو ميزة اللهم إلا إذا كان نفاقاً أو رياء. وقد يدفع الحقد ببعض الناس إلى أن يزيدوا، على نكران المعروف ونسيان الجميل والمروءة، أن يتلمّسوا لصاحبهم مواضع العيب والنقص من أعماله، وينشروها ليشهّروا به في المحافل والمجالس تشهيراً. وإنّ أعجب ما في الإنسان أن تراه شديد العداوة والبغضاء لأخيه، عظيم النفور منه. ومع ذلك فإنّه شديد الحاجة إليه عظيم الرغبة فيه. فبينما تجده يكره منه أن يزاحمه على خير أو يشاركه في فضل أو يستأثر دونه بعلم أو عمل، ويمقته ويزدريه ويودّ لو أنّه يستأصل من هذا الوجود فلا يبقى له أثر فيه، إذا هو لا يستطيع أن يعيش بدونه ولا أن ينهض بغيره، لا يرى معونته إلا منه ولا سلطانه إلا به ولا عزّه إلا في بقائه. فقضية الإنسان في تلك الحياة متناقضة معكوسة، وقل مع هذا أن يملك الواحد نفسه وينصف صاحبه، ويعطيه قسطه من المدح وحقّه من الثناء والشكر. وحينئذٍ لا بدع إذا كان يسرّني جدّاً أن أرى إنساناً مثل هذا نظيف القلب مغسول الصدر من أدران الحقد والحسد. وإنّي بعد أن شكرته جزيل الشكر وأثنيت عليه جميل الثناء، قلت له: إذا كان للمرحوم جدّنا محمّد علي باشا في الشرق من تلك الآثار الواضحة والأعمال الخطيرة النافعة ما يستوجب شكر الناس له، فإنّنا معشر الشرقيّين لا ننسى أن لأبيكم في الغرب من الإصلاحات الكثيرة والمنافع الجمّة الجليلة ما ليس يقلّ عن ذلك شيئاً، وعلى هذا
اِنتهى حديثنا.
وكان من ضمن الزائرين لنا في مساء هذا اليوم حضرة عبد الحميد بك غالب، نجل المرحوم عثمان غالب باشا. وقد اِستغربت إذ ذاك وجوده في دمشق، فسألته ماذا جاء بك إلى هنا؟ فقال: إنّ لي عمّاً في هذه المدينة، وقد كان المرحوم والدنا اِشترى بيتاً كبيراً حوله حديقة في ضواحي دمشق. ثمّ إنه ما زال جالساً معنا حتّى وقت الغروب، فاِستأذننا مودّعاً بالحفاوة مشكوراً على تلك الزيارة.