الرحله الشاميه (صفحة 152)

ليس إلا هي وحدها البقية الباقية الّتي تذكرنا إلى اليوم بتاريخ الشرق القديم، بل إن الخطر الخطير الّذي يتهدّد تلك العوائد الأصلية والتقاليد الشرقية العتيقة ما بين آن وآن هو أن يروق التمدّن الأوروبي في عيون

أهل هذه البلاد فيفتحوا أبوابها فرحين به مرحّبين بمقدمه، كما فعل غيرهم من قبل. فقد شاهدنا أن التمدّن الغربي ما دخل جهة من الجهات إلا وغيّر معالمها وبدّل شؤونها وقضى على أخلاقها وعوائدها وتقاليدها. وأوّل ما ينال منها تغيير الملابس والأزياء الّتي يروّجها الرخص ويسوّلها حبّ التقليد المفطور عليه الإنسان، هو يفرح حينما يشتري ثوبه رخيصاً من البضاعة الأجنبية، ويظلّ ثملاً بنشوة الرخص، غافلاً عمّا يعتقبه من فشل تجارة بلده الّتي لا تلبث إلا ريثما تروّج البضاعة الخارجية ثمّ تتلاشى ويذبل عودها ثمّ يمحى أثرها من الوجود بالمرّة. وفي ذلك من الخسارة العظمى ما لا يخفى، خصوصاً عندما يصبح تجّار البلد معطّلين بعد العمل، وفقراء بعد الغنى. وأدهى من ذلك وأمر أن تفقد البلاد أعظم ركن ترتكز عليه ثروتها واستقلالها. وكلّ ذلك في نظير شيء تافه يظنّ المبتاع أنّ له منه وفراً وثراءً.

لا يفهم القارئ ممّا قدّمناه أنّ مقصدنا هو أن تغلق البلاد الشرقية أبوابها في وجه التجارة الغربية حتّى لا يدخل منها شيء في تلك البلاد، فإنّي أقدّر بعض المصنوعات الأوربية وأعترف بحسنها ومنفعتها في بلاد الشرق، ولا أنّي أكره التمدّن الغربي وأمقت دخوله في أرض سورية أو غيرها من البلاد، كما ربّما يفهمه تعبيري السابق. لأنّي أعتقد أنّ الحياة الراقية في كلّ مكان، إنّما هي معقودة بلواء ذلك التمدّن وأفهمه تماماً. إنّه ما من عمل نراه مفيداً في الحياة الاجتماعية إلا وهو شعبة من شعب الحضارة الأوربية ونعت من نعوتها، ولا يفهم غير ذلك أحد إلا كان مخطئاً في فهمه.

إنّ كلّ بلد دخلها شيء من التمدّن الأوربي لا شكّ تمتاز عن غيرها وتحسّ بحياة جديدة أرقى بالطبع من حياتها الأولى. ضرورة أنّ البلدة الّتي تتمتع بمنافع البخار والكهرباء وتستفيد من استخدامهما، تجد لها حياة غير ما تجده البلدة الخالية من

ذلك. وإنّما الشيء الّذي أكرهه حقيقة ولا أحبّ أن يكون أبداً هو أوّلاً: أن تأخذ التجارة الأجنبية من نفوس أهل الشام مأخذها من نفوس المصريين مثلاً، لأنّ ذلك

طور بواسطة نورين ميديا © 2015