العقل حيث ما وجد يكون محتشمًا حتى إن الحيوان إذا رأى إنسانًا احتشمه بعض الاحتشام، وانزجر به بعض الانزجار، ولذلك تنقاد الإبل للراعي، وكذلك جماعة الرعاة إذا رأوا منهم من كان أوفر عقلًا أغزر فضلًا فيما هم بصدده انقادوا له طوعا.
وكذلك العلماء إذا لم يعاندوا انقادوا ضرورة لأكثرهم علمًا، وأفضلهم نفسًا، وأوفرهم عقلا، ولا ينكر فضله إلا كل متدنس بالمعايب، متطلب لرئاسة، محافظ على غرض دنيوي، قد جعل عقله خادمًا لشهوته، فلمحافظته على رئاسته ينكر فضل الفاضل.
ولفضيلة العقل الوافر كان كثير ممن كانوا يعاندون النبي - صلى الله عليه وسلم - قصدوه ليقتلوه فما هو إلا أن وقع طرفهم عليه فتراءى لهم نور اللَّه تعالى معربًا عنه، فألقى في قلوبهم منه روعة، فهابوه، فمن مذعن له طائعًا، وخبيث لا ينكره بعد إلا جاحدا، ولهذا المعنى
قال الشاعر:
لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بداهته تغنيك عن خبره
وقد تقدم أن الإنسان لم يتميز عن الحيوان والبهائم إلا بالعقل، ولم يشرف
إلا بالعلم، ومن شرف العلم أن كل حياة انفكت منه فهي غير معتد بها، بل
ليست في حكم الموجودة، فإن الحياة الحيوانية لا تحصل ما لم يقارنها الإحساس فيلتذ بما يوافقه ويطلبه، ويتألم بما يخالفه فيهرب منه، وذلك أخس المعارف فمقتضى الحياة الإنسانية أنها إذا تعرَّت من المعارف المختصة بها أن لا يعتد بها، ولهذا سمى اللَّه تعالى الجاهل ميتًا في غير موضع من كتابه فقال: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ)
ولأجل أن الحياة تقارن العلم سمى الله تعالى العلم