ورياحين، فكان كلما دخل واحد منهم تلقاه به، ودفعه إليه، لا ليملكه، بل ليشمه ويستمتع به ويدفعه إلى من يجيء بعده، فمن كان جاهلًا برسومهم ظن أنه قد وهب له، فيضجر إذا استرجع منه، ومن كان عارفًا برسومهم أخذه بشكر، ورده بانشراح صدر، وطيب نفس.

تفاوت أحوال المتناولين لأعراض الدنيا

طلب الدنيا وتناولها على ثلاثة أضرب:

فالأول: من يتناولها على أي وجه اتفق، راكنًا إلى المال غير متفكر في المآل، وإياه قصد تبارك وتعالى بقوله في ذم من ذمه: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) .

والثاني، من يتناولها على الوجه الذي يجب تناولها عليه، وذلك أن يقتصر على ما لا يمكن التبلغ بأقل منه، من الوجه الذي يجب كما يجب.

ولوجوب تناول هذا القدر قيل: مباحات الصوفية فريضة، وفريضتهم مباحة. بمعني أنه لا يقدم على تناول مباح حتى يضطر إليه، فيتحتم تناوله عليه، فيصير ما كان مباحًا تناوله فرضًا عليه، ويفعل من الواجبات فوق ما يجب عليه، مسارعًا إليه حتى يصير حكمها حكم النوافل.

وقد روي: " من طلب رزقه على ما سن له فهو في جهاد "، وقال - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود: " إن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى اللقمة يضعها في فيِّ امرأته "،

ولم يعن أن كل أحد على كل حال يؤجر في ذلك، وإنما أراد تخصيص المؤمنين الذين يراعون حكم اللَّه في مكاسبهم وإنفاقهم ويتحرون في ذلك عبادة الله.

والضرب الثالث: من يتوسع فىِ تناولها ويراعي فيها ما يجب، لكن يكون فيه

وكيلًا للَّه تعالى فيقتصر منها لنفسه على تناول بلغته، ويجعل الباقي مصروفا إلى ما دعي إليه، فهذا أفضل كما تقدم ذكره، فإنه يصير بذلك من خلفاء اللَّه - عز وجل -.

فمن تناول الدنيا على أحد هذين الوجهين فقد ارتسم للًه - عز وجل - في قوله تعالى:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015