وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل "، أي: أنه يجذبه خليله إلى دينه ومذهبه، ولقوة هذا المعنى وتأثيره في النفوس شاع على الألسنة قول الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
وليس إعداء الجليس بجليسه في خلقه بمقاله وفعاله فقط، بل بالنظر إليه، فالنظر في الصورة يؤثر في النفوس أخلاقًا مناسبة لخلق المنظور إليه " فإن من دامت رؤيته لمسرور سر أو لمحزون حزن، وليس ذلك في الإنسان فقط، بل في الحيوانات والنبات.
فإن الجمل الصعب قد يصير ذلولًا بمقارنة الذلل، والذلول قد ينقلب صعبًا بمقارنة الصعاب، والريحانة الغضة قد تذبل بمقارنة الذابلة، ولهذا يلتقط أصحاب الفلاحة الرمم عن الزرع، لئلَّا تفسدها ومعلوم أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة إذا قربت منهما، وذلك مما لا ينكره ذو تجربة، فإذا كانت هذه الأشياء قد بلغت في قبول التأثير
هذا المبلغ فما الظن بالنفوس البشرية التي موضوعها على قبول صور الأشياء خيرها وشرها، فقد قيل: إنما سمي الإنس إنسًا، لأنه يأنس بما يراه إن خيرًا وإن شرًّا.
وللإنسان في المعاشرة ثلاثة أحوال:
إما أن يكون شكسًا، أي: قاسي الطبع،
أو ملقًا أي: سلس الطبع، أو مساعدا، أي: تاركا للخلاف على مقتضى العقل وهو المحمود، وحق الإنسان في المعاشرة أن يتقوى من جهة الفكرة بالمطايبة فىِ الكلام، ومن جهة الغضب بالتحالم، ومن جهة الشهوة بالجود، وأن يتعرى عن أضداد ذلك، وأن يجامل المعاشرين والمعاندين والمشتهين منهم بالإخوان ويصابرهم ويكاشرهم طمعًا في رجوعهم إخوانًا واتقاء من شرورهم حتى يكون ظريفًا، فالظرف عبارة عن استجماع آلة العشرة من الطلاقة والاحتمال ولين الجانب.
قد كثر اختلاف الناس في مفاضلة التفرد والاختلاط، فبعضهم آثر التفرد عن