وأرفع الإدراكات العقل ثم الفكر ثم التخيل ثم الحس، إلا أن العقل والفكر يدركان الأشياء الروحانية.
فأما السمع والبصر فمتوسطان، لأنهما يخدمان النفس والجسم، وخدمتهما للنفس أكثر، ويدركان الأشياء الجسمانية.
والتخيل متوسط بين العقل والفكر وبين السمع والبصر، فيأخذ تارة من
السمع والبصر ويسلم إلى العقل والفكر وذلك في حال اليقظة، ويأخذ تارة من العقل والفكر ويسلمه إلى السمع والبصر وذلك في حال النوم.
ولما كان مبدأ تأثير هذه القوى من الدماغ قيل: مسكن الفكرة وسط الدماغ، ومسكن الخيال مقدَّمُه، ومسكن الحفظ والذكر مؤخَّره. ولما كان قوام الدماغ، بل قوام الجسم كله من القلب الذي منه منشأ الحرارة الغريزية صار في كلام الناس يعبَّر عن هذه القوى تارة بالدماغ فيقال: لفلان دماغ إذا قويت منه هذه القوى المدركة، وفلان خالي الدماغ إذا ضعفت فيه هذه القوى. ويعبر عنها تارة بالقلب والثاني أكثر، وعلى ذلك قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) .
ولما كان أكثر إدراك الحقائق بهذه القوى المدركة، وكانت الفكرة خادمة للعقل، والتخيل خادفا للعقل والفكر تارة، وللسمع والبصر تارة خص اللَّه بالذكر القلب - وهو أحد الطرفين - والسمع والبصر وهو الطرف الآخر؛ ولذلك عظم اللَّه المنَّة على الإنسان