وقنع بماله، ولم يحزن بما هو واقع به لا محالة.
واعلم أن الجزع على ما فات لا يلم ما تشعث ولا يبرم ما انتكث كما قيل: وهل جزع مجدٍ عليَّ فأجزعا.
فأما غم على المستقبل فلا يخلو من ثلاتة أوجه:
إما في شيء ممتنع كونه أو واجب
كونه أو ممكن كونه، فإن كان على ما هو ممتنع كونه فليس ذلك من شأن العاقل، وكونه إن كان من قبل الواجب كونه كالموت الذي هو حتم في رقاب العباد، وإن كان ممكنا كونه فإنه إذا كان من الممكن الذي لا سبيل إلى دفاعه كإمكان الهرم، فالحزن له جهل واستجلاب غم إلى غم، وإن كان من المكن الذي يصح دفاعه فالوجه أن يحتال لدفاعه بفعل غير مشوب بحزن، فإن اندفع وإلا تلقاه بصبر جميل وليتحقق معنىِ قوله تعالى:
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)
ثم قال: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ)
فمن علم أن ما جرى من حكمه وسبق علمه لا سبيل إلى أن
لا يكون هانت عليه النوائب ولم يجزع لحلول المصائب.
واعلم أن الذي يغر الناس حسن ظنهم بانحسار الآفات واغترارهم حالة بعد حالة بصفاء الأوقات، ولو تأملوها بالبصيرة لتحققوا أنها كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه: " ما قال الناس لقوم طُوبى لكم إلَّا وقد خبأ لهم الدهر يوم بؤس " كما قيل:
إن الليالي لم تحسن إلى أحد ... إلا أساءت إليه بعد إحسان
وأما سبب الاغتمام للموت فلا ينفك من أربعة أوجه:
إما لفوت شهوات بطنه وفرجه، وإما على ما يخلفه من ماله، وإما على جهله بمآله، وإما خوفًا لما قدمه من عصيانه.
فإن كان ذلك لشهوة بطنه وفرجه، فليعلم أن ذلك كمشتهٍ داء ليقابله بداء
مثله فإن الإنسان لا يستلذ بالطعام حتى يجوع، والجوع داء مهروب منه وشبعه داء مهروب إليه، فمثل من يحب الجوع ليستطيب بعده الأكل كمن يستطيب القعود في الشمس ليناله الحر، ثم يستطيب القعود في الظل، ومحبة ذلك رقاعة لا تحد ولا تعد.
وإن كان غمه على مما يخلفه من مال، فذلك لجهله بخساسة الأعراض الدنيوية وكونها معدن كل بلية، وقلة معرفته بنفاسة الأملاك الحقيقية التي وعد المتقون بها.