لكن اعتبار من تجوز أن تعتمد مشاورته صعب جدًّا، فإنه يحتاج أن يكون صديقًا أمينًا مجربًا حازمًا ناصخا رابط الجأش غير معجب بنفسه ولا متلون في رأيه ولا كاذب في مقاله، فمن كذب لسانه كذب رأيه، ويجب أن يكون فارغ البال في وقت ما يستشار وقد أحسن بشار حيث قال:
وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه ... ولا كل مؤت نصحه بلبيب
ولكن إذا ما استجمعا عند واحد ... فحق له من طاعة بنصيب
النصح: أصله من نصحت الثوب إذا خطته، وهو إخلاص المحبة لغيره في إظهار ما فيه صلاحه، وهو دون المحبة المختصة بالفضيلة ودون محبة النفع واللذة، وقد عظم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره فقال: " الدين النصيحة " فقيل: لمن يا رسول اللَّه، فقال: " للَّه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم " فبين - صلى الله عليه وسلم - أن النصح واجب لكافة الناس، وذلك بأن تتحرى مصلحتهم في جميع أمورهم بقدر وسعك.
وأول النصح أن ينصح الإنسان نفسه فمن غشها فقلما ينصح غيره، وحق من استنصح أن يبذل غاية النصح وإن كان ذلك في شيء يضره، ويتحرى فيه قول اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)
وقال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)
وقال ابن عباس - رضي الله عنها -: لا يزال الرجل يزداد في صحة رأيه ما نصح لمستشيره، فإذا غشه سلبه اللَّه نصحه ورأيه،
ولا يلتفتن إلى من قال: إذا نصحت الرجل فلم يقبل منك فتقرب إلى اللَّه بغشه، فذلك قول ألقاه الشيطان على لسانه، اللَّهم إلا أن يريد بغشه السكوت عنه، فقد قيل: كثرة النصيحة تورث الظنة.
ومعرفة الناصح من الغاش المستنصح صعبة جدا، فالإنسان المكره يصعب الاطلاع على سره، إذ هو قد ييدي خلاف ما يخفي، وليس كالحيوانات التي يمكن أن تطلع على طبائعها.