إلا دار عباد، فثار إليهم عندما أحس بهم ولا أهبة إلا إقدامه، ولا صاحب إلا حسامه، فجادلهم بالسيف صلتاً، حتى أذاقوه الموت بحتاً؛ ثم نهدوا إلى دار ابن مرتين وهو في منزل راحته، غافلاً عما نزل بساحته. ذكر أنه كان ساعتئذٍ يلعب بين يديه بالكرج، فعول على الفرار، واستتر مديدةً في بعض الأقطار، حتى انفضت أيامه، وعثر عليه حمامه، أخرج من قرطبة كأنه يحمل إلى ابن ذي النون، وقد تقدم إلى حملته، فطووا خبره، ومحوا أثره.
وبات ابن عكاشة ليلته يطرق دور الأعيان من أهل قرطبة، يتودد إليهم، ويعرض نفسه عليهم، فمن أجابه قبله، ومن أبى عليه لم يعرض له؛ وأصبح قد انضاف إليه من بني المحن، وطغام الفتن، من منع منه، وحسم الأطماع عنه. ودعا الكافة إلى المسجد الجامع فأتوه خفافاً وثقالاً، وبايعوه بطاءً وعجالاً، وانثالت إليه طوائف الأمداد، وقواد الأجناد، فانتظم له الأمر، واستوسق له المصر، ولحق ابن ذي النون بعد ذلك وهو يرى أنه قد وطئ صلعة النسر، وأخذ بمخنق الدهر، أملاً طالما عللته به المطامع، وهزته إليه المضاجع، ولم يزل في يوم دخوله قرطبة يعمل الحيلة في إقصاء ابن عكاشة من دولته، وإخراجه عن جملته.
بلغني أنه دخل على ابن ذي النون يوماً، وقد رفل في الشارة، وتقلد مثنى الوزارة، فرحب به وأدناه، وهش إليه وناجاه، فلما خرج تنفس الصعداء، وأتبعه نظرةً شوهاء، وهينم بكلمةٍ عوراء