قال: وكان مما آثر به كعب بن مامة على نفسه أنه أصحب رجلاً من النمر بن قاسط في سفر في شهر ناجر - وهو أشد الأشهر حراً وإنما سمى ناجر لأن الإبل تنجر فيه، وهو أن تشرب فتمتلىء بطونها من الماء وأفواها يابسة، قال: فضلا فتصافنا ماءهما فجعل النمري يشرب نصيبه فإذا أصاب كعباً قال كعب: آسق أخاك النمري فيؤثره ويسقيه حتى أضر به العطش، فلما رأى ذلك استحث راحلته وبادر أن يموت حتى رفع له أعلام الماء فجعل يقول: رد كعب إنك وراد فغلبه العطش فمات. وقال رجل من إياد يبكيه:
ما كان من سوقة أسقى على ظمإ ... خمراً بماء إذا ناجورها بردا
من ابن مامة كعب ثم عي به ... زو المنية إلا حرة وقدا
وافى على الماء كعب ثم قيل له ... رد كعب إنك وراد فما وردا
وذكر الفرزدق في كلمته فقال:
إذا قال كعب هل رويت ابن قاسط ... يقول له زدنى بلال الحلاقم
وكنت ككعب غير أن منيتى ... تأخر عني يومها بالأصارم
قال: وكان كعب إذا جاوره جار فمات بعض أهله ولم يكن لحمته وداه. وإن هلك بعير له أو شاة أخلف عليه. ولم يكن أحد من الجيران هكذا. قال: فجاوره أبو دؤاد الإيادي الشاعر، وكان يفعل به ذلك.
قال أبو عبيدة: فإذا حمد جار لحسن جوار ضرب به المثل فقيل: جار كجار أبي دؤاد، وقال طرفة بن العبد:
إنى كفانى من جار هممت به ... جار كجار الحذاقي الذي اتصفا
وقال قيس بن زهير يمدح ربيعة بن فرط، أحد بني بكر ابن كلاب وكان جاوره أيام كانت بنو عبس في بني عامر:
أحاول ما أحاول ثم آوى ... إلى جار كجار أبي دؤاد
منيع وسط عكرمة بن قيس ... وهوب للطريف وللتلاد
وقال شاعر في الإسلام:
ما زلت عن حاتم وكعب وعن ... طلحة تلغى بذاك ما فعلوا
وتعتلى بالفعال شأوهم ... حتى بك اليوم يضرب المثل
وقال الكميت بن زيد لخالد بن عبد الله القسري:
ما أنت في الجود إن عدت فضائله ... ولا ابن مامة إلا البحر والوشل
أنسيتنا في الندى أسلاف أولنا ... فأنت في الجود فيمن بعدنا مثل
وأجواد العرب في الإسلام من أهل المدينة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. ومن أهل الكوفة أسماء بن خارجة الفزارى. وعكرمة بن ربعى الفياض، من تيم الله بن ثعلبة. وخالد بن عتاب بن ورقاء اليربوعى ثم الرياحى.
ومن أهل البصرة: طلحة الطلحات بن عبد الله بن خلف الخزاعى وعبيد الله بن أبي بكرة ثم أمسك بأخرة.
ومن أهل الشام: خالد بن عبد الله بن أسيد.
الواحد رجلي: وهو الشديد العدو، وإنما يغير على رجليه - المنتشر بن وهب الباهلي، وسليك بن عمير السعدي، وأمه سلكة، سوداء إليها ينسب، وأوفى بن مطر المازني، مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، وكانوا لا يجارون شدا، وكان ربما جاع أحدهم فيعدو على الظبي حتى يأخذه بقرنه. وكانوا أدل من القطا، فكانوا إذا كان أيام من الربيع جعلوا الماء في بيض النعام مثقوباً فبددوه، فإذا كان الصيف وانقطع الغزو، وغزى أحدهم جاء حتى يقف على البيضة فيستثيرها.
قال أبو عبيدة: غزت بكر بن وائل بنى تميم فأرسلوا طلائع لهم فرأت السليك، وكانوا جاءوا متجردين ليغيروا على بني تميم. فقالوا: إن علم هذا الخبيث أنذر قومه فبعثوا إليه فارسين منهم على جوادين فلما هايجاه خرج يمحص كأنه ظبي فطارداه سحابة يومهما وقالا إذا كان الليل أعيا فسقط وقصر عن العدو فنأخذه قال: فلما أصبحوا وجدوا أثره وقد عثر بأصل شجرة فيرى كمكان تلك وندرت قوسه وانحطمت، فوجدوا قصدة منها قد ارتزت في الأرض فقالا أخزاه الله ما أشده، فهما بالرجوع ثم قالا: لعل هذا كان من أول الليل ثم فتر، فتبعاه فإذا أثره متفاج والمتفاج الذي فتح رجليه للبول، يقال للشاة إذا دنت ففتحت رجليها للحلب تفاجت الشاة قد بال فرغاً في الأرض فخدها فقالا: ما له قاتله الله ما أشد متنه! والله لا نتبعه بعد هذا، فانصرفا، ونم إلى قومه فأخبرهم الخبر وأنذرهم الجيش فكذبوه لبعد الغاية. فقال:
يكذبني العمران عمرو بن جندب ... وعمرو بن سعد والمكذب أكذب