قال محمد بن حازم: دخلت على المأمون، فلما مثلت بين يديه، قال: كيف بصرك بأيام الناس وأخبار العرب؟ قلت: أنا على الميدان، فليطلق من عناني! قال: أنشد ما بدا لك. فتركت ما أومأ إليه وعملت في صلاح شأني، وقلت: مجلس خلافةٍ ولست آمن نبوة، فأنشدته:
رزقت عقلاً ولم أُرزق مروءته ... وما المروءة إلا كثرة المال
إذا أردت مساماةً تقاعد بي ... عمّا ينوه باسمي رقّة الحال
قال المأمون: الشيخ يشكو رقة الحال، فليدفع إليه ألف درهم، وتبسم. فقلت: ما وراء التبسم إلا خير، فأنشدته:
أنت سماءٌ ويدي أرضها ... والأرض قد تأمل غيث السما
فازرع يداً عندي محمودةً ... تحصد بها في الناس حسن الثنا
قال: هذا المعنى أقوى من الأول، وأمر لي بألفي درهم، ثم قال: خدعتني! قلت: قد حضرني بيتان في الخديعة، فقال: وما هما؟ فأنشدته:
وإذا الكريم أتيته بخديعةٍ ... فرأيته فيما تروم يسارع
فاعلم بأنك لم تخادع جاهلاً ... إن الكريم بفعله يتخادع
فقال: هما والله أحسن من الأول. وأمر لي بمثل ما أمر به. وسألني أن أنشده، فأنشدته:
لا ترهقنّك ضجرةٌ من سائلٍ ... فلخير دهرك أن ترى مسؤولا
لا تجبهنّ بالمنع وجه مؤمّل ... فبقاء عزّك أن ترى مأمولا
واعلم بأنك عن قليل صائرٌ ... خبراً، فكن خبراً يروق جميلا
يلقى الكريم فيستدل ببشره ... وترى العبوس على اللئيم دليلا
فقال: لله درك، ما أحسن معانيك! يا غلام، صك له بمثل ما أعطيناه.
وله من هذا الفن وغيره كل شيء حسن.
ولولا خروج الكتاب عن حده المرسوم وخوف الاطالة، لأوردت من غرر شعره ومحاسنه ما يلتذ به سامعه. وفي ما أوردنا كفاية.
ديارات مصر التي تقصد للشرب فيها والتنزه بها فمنها: دير القصير
دير القصير
وهذا الدير في أعلى الجبل، على سطح قلته. وهو دير حسن البناء، محكم الصنعة، نزه البقعة. فيه رهبان مقيمون به. وله بئر منقورة في الحجر يستقى الماء له منها. وفي هيكله صورة مريم في حجرها صورة المسيح عليه السلام. والناس يقصدون الموضع للنظر إلى هذه الصورة. وفي أعلاه غرفة بناها أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، لها أربع طاقات إلى أربع جهات. وكان كثير الغشيان لهذا الدير. معجباً بالصورة التي فيه، يشرب على النظر إليها. وفي الطريق إلى هذا الدير من جهة مصر صعوبة. فأما من قبليه فسهل الصعود والنزول. وإلى جانبه صومعة لا تخلو من حبيس يكون فيها. وهو مطل على القرية المعروفة بشهران وعلى الصحراء والبحر. وهذه القرية المذكورة، قرية كبيرة عامرة على شاطىء البحر، ويذكرون أن موسى، صلى الله عليه، ولد فيها، ومنها ألقته أمه إلى البحر في التابوت.
فدير القصير هذا، أحد الديارات المقصودة لحسن موقعه وإشرافه على مصر وأعمالها. وقد قال فيه شعراء مصر وذكروا طيبه ونزهته.
ولأبي هريرة ابن أبي العصام، فيه:
كم لي بدير القصير من قصف ... مع كل ذي صبوةٍ وذي ظرف
لهوت فيه بشادنٍ غنج ... تقصر عنه بدائع الوصف
وقال فيه أيضاً:
أذكرتني يا دير من قد مضى ... من أهل ودّي ومصافاتي
كم كان لي فيك وفيهم معاً ... من طيب أيام وليلات
أشكو إلى الله مصابي بهم ... وفقدنا أهل المروءات
ولمحمد بن عاصم، في هذا الدير:
إن دير القصير هاج ادكاري ... لهو أيامي الحسان القصار
وزماناً مضى حميداً سريعاً ... وشباباً مثل الرداء المعار
عرفتني ربوعه بعد نكرٍ ... فعرفت الرّبوع بالانكار
فلو أن الديار تشكو اشتياقاً ... لشكت جفوتي وبعد مزاري
ولكادت نحوي تسير لما قد ... كنت فيها سيّرت من أشعاري
فكأني إذ زرته بعد هجرٍ ... لم يكن من منازلي ودياري
إذ صعودي على الجياد إليه ... وانحداري في المعنقات الجواري
بصقورٍ إلى الدماء صوادٍ ... وكلابٍ على الوحوش ضواري