وهذا الدير، يقرب من باب الحديد، وهو دير كبير، حسن، نزه، تحدق به البساتين والأشجار والرياحين. وهو يوازي دير الثعالب في النزهة والطيب وعمارة الموضع، لأنهما في بقعة واحدة. وهو مقصود مطروق، لا يخلو من المتنزهين فيه والقاصدين له. وفيه رهبانه وفتيانه ومن يألف من أهل الخلاعة والبطالة.
وقالت الشعراء فيه ووصفته. ولمحمد بن أبي أمية الكاتب فيه، وفيه لحن خفيف رمل:
لهفي على قمرٍ في الدير مسجون ... في صورة الانس، في مكر الشياطين
والله ما أبصرت عيني محاسنه ... إلاّ خرجت له طوعاً من الدين
وله في هذا الدير أيضاً:
تذكرت دير الجاثليق وفتيةً ... بهم تمّ لي فيه السرور وأسعفا
بهم طابت الدنيا وتم سرورها ... وسالمني صرف الزمان وأنصفا
ألا ربّ يوم قد نعمت بظله ... أبادر من لذات عيشي ما صفا
أغازل فيه أدعج الطرف أهيفا ... وأُسقى به مسكية الطعم قرقفا
فسقياً لأيام مضت لي بقربهم ... لقد أوسعتني رأفةً وتعطفا
وتعساً لأيام رمتني بينهم ... ودهرٍ تقاضاني الذي كان أسلفا
ومحمد بن أمية هذا، أحد المتقدمين في الشعر، رقيق الطبع، حسن التصرف فيه، غريب المعاني. وأكثر شعره في الغزل. وكان هو وعلي أخوه يكتبان للفضل ابن الربيع. وهو عم أبي حشيشة الطنبوري.
ومن مليح شعره:
رأيتك حليتي دنيا ودين ... حياةً للضّجيع وللقرين
بدا لي بعدما سبقت يميني ... بهجرك أن أكفّر عن يميني
وله:
لم أسل عنك ولم أخنك ولم يكن ... في القلب مني للسلو مكان
لكن رأيتك قد مللت مودّتي ... فعلمت أن دواءك الهجران
ومن رقيق شعره:
يا غريباً يبكي لكل غريب ... لم يذق قبلها فراق حبيب
عزّه الصبر فاستراح إلى الدّم ... ع، وفي الدمع راحة للقلوب
ليت يوماً أراك فيه كما كن ... ت قريباً، فأشتكي من قريب
وله:
رب يوم منك لا أنساه لي ... أوجب الشكر وإن لم تفعل
أقطع الدهر بظن حسنٍ ... وأجلّى غمرةً ما تنجلي
وأرى الأيام لا تُدني الذي ... أرتجي منك وتدني أجلي
كلما أمّلت يوماً صالحاً ... عرض الهجران دون الأمل
ومن نادر شعره:
لأُقيمن مأتماً عن قريب ... ليس بعد الفراق غير النحيب
أظلمتني فيك الخطوب فلم أق ... وعلى أن أردّ ظلم الخطوب
ربّ، ما أوجع الهوى للقلوب ... لا ولا سيما فراق الحبيب
لم أكن أعرف الفراق فأقدم ... ت عليه غرّاً بلا تجريب
وله أيضاً:
اليوم أثكلني صبري فراقكم ... كذاك أعظم شيء فقد معشوق
قد كنت في فسحةٍ من قبل بينكم ... فاليوم صرت من الأحزان في ضيق
واغتالني زمنٌ قد كنت آمنه ... تعساً لغدرته من بعد توثيق
إني على العهد لم أنقض مودّتكم ... يا من يرى حسناً نقض المواثيق
وله:
ما ذاقت النفس على شهوةٍ ... ألذّ من ودّ صديق أمين
من فاته ودّ أخٍ صالح ... فذلك المغبون حقّ اليقين
وله، وهو من مليح شعره:
فيا شوق لا تنفد، ويا دمع فض وزد ... ويا شوق راوح بين جنبٍ إلى جنب
ويا عاذلي لمني، ويا عابد افتني ... عصيتكما حتى أغيّب في الترب
إذا كان ربّي عالماً بسريرتي ... فما الناس في عيني بأعظم من ربي
وله يصف روضة:
في جنانٍ كأنما نشرت فو ... ق ثراها حريرة خضراء
أعين النرجس الجنيّ نجومٌ ... واخضرار الرياض فيها سماء
للثرى تحتها سباتٌ وللما ... ء خريرٌ وللغصون غناء
وله:
فها أنا مغضٍ في رضاك وصابرٌ ... على مثل مصقول الذبابين قاضب
ومنتزح عما كرهت وجاعلٌ ... رضاك مثالاً بين عيني وحاجبي
وله: