يا خليليّ، عرّجا بي إلى الحيرة كم كم تراقبان النجوما

واسقياني من بيت سجوم را ... حاً قهوةً لا تماكسا سجوما

حانةٌ حشوها ظباءٌ ملاحٌ ... هيجوا بالدّلال قلباً سقيما

وإذا ما سقيتماني شرابا ... خندريساً معتقاً مختوما

فاقصدوا قبّة الشتيق وظبياً ... سكن الدير قد سباني رخيما

عقد زناره توصل بالقل ... ب فأمسى بين الحشا مخزوما

وبكر بن خارجة هذا، من أهل الكوفة. وكان من المنهمكين في الخمر، والمستهترين بالتطرح في الحانات والديارات. وكان أكثر شعره في ذلك.

فمن شعره أيضاً:

راح من الحانة سكرانا ... فزادني همّاً وأحزانا

حانة سجوم التي صيّرت ... من حبها في القلب نيرانا

يرنو بعيني شادن أحورٍ ... تخاله للسكر وسنانا

ما رأت العينان شبهاً له ... إنساً إذا عدّ ولا جانا

معاقد الزنار في خصره ... عذّبنني بالحبّ ألوانا

كتمت حبي وهواي له ... دهراً وأحوالاً وأزمانا

حتى توّلى جسدي للبلى ... فما أُطيق اليوم كتمانا

دير هند بنت النعمان بن المنذر

بنت هند هذا الدير بالحيرة، وترهبت فيه وسكنته دهراً طويلاً، ثم عميت. وهذا الدير من أعظم ديارات الحيرة وأعمرها. وهو بين الخندق وحصراه بكر.

ولما قدم الحجاج الكوفة، في سنة أربع وسبعين، قيل له إن بين الحيرة والكوفة ديراً لهند بنت النعمان، وهي فيه، ومن رأيها وعقلها. فانظر إليها فإنها بقية. فركب والناس معه حتى أدير. فقيل لها: هذا الأمير الحجاج بالباب. فاطلعت من ناحية الدير، فقال لها: يا هند، ما أعجب ما رأيت؟ قالت: خروج مثلي إلى مثلك! فلا تغتر يا حجاج بالدنيا، فإنا أصبحنا ونحن كما قال النابغة:

رأيتك من تعقد له حبل ذمّةٍ ... من الناس، يأمن سرحه حيث أربعا

ولم نمس إلا ونح أذل الناس. وقل إناء امتلأ إلا انكفأ.

فانصرف الحجاج مغضباً، وبعث إليها من يخرجها من الدير ويستأديها الخراج فأخرجت مع ثلاث جوار من أهلها، فقالت إحداهن في خروجها:

خارجاتٌ يسقن من دير هندٍ ... مذعناتٌ بذلةٍ وهوان

ليت شعري، أأوّل الحشر هذا، ... أم محا الدهر غيرة الفتيان؟

فشد فتى من أهل الكوفة على فرسه، فاستنقذهن من أشراط الحجاج، وتغيب. فبلغ الحجاج شعرها وفعل الفتى: فقال: إن أتانا فهو آمن، ون ظفرنا به قتلناه! فأتاه الفتى، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: الغيرة! فوصله وخلاه.

وكان سعد بن أبي وقاص حين فتح العراق، أتى هنداً إلى ديرها، فخرجت إليه، فأكرمها وعرض عليها نفسه في حوائجها فقالت: سأحييك بتحية كانت أملاكنا تحيا بها: مستك يد نالها فقر بعد غنىً ولا مستك يد نالها غنى بعد فقر. ولا جعل الله لك إلى لئيم حاجة. ولا نزع الله عن كريم نعمة إلا جعلك سبباً لردها عليه.

ثم جاءها المغيرة، لما ولاه معاوية الكوفة، فاستأذن عليها، فقيل لها: أمير هذه المدرة بالباب. فقالت: قولوا له: من أولاد جبلة بن الأيهم أنت؟ قال: لا! قالت: فمن ولد المنذر بن ماء السماء؟ قال: لا! قالت فمن أنت؟ قال المغيرة بن شعبة الثقفي. قالت: فما حاجتك؟ قال جئتك خاطباً! قالت: لو جئتني لجمال أو حال لأجبتك. ولكن أردت أن تتشرف بي في محافل العرب، فتقول: نكحت بنت النعمان بن المنذر! وإلا، فأي فخر في اجتماع أعور وعمياء؟ فبعث إليها، قال: كيف كان أمركم؟ قال: سأختصر لك الجواب. أمسينا مساء وليس في الأرض عربي إلا وهو يرغب إلينا ويرهبنا، ثم أصبحنا وليس أحد إلا ونحن نرغب إليه ونرهبه! قال: فما كان أبوك يقول في ثقيف؟ قالت: اختصم إليه رجلان منهم، في شيء، أحدهما ينتمي إلى إياد والآخر إلى بكر بن هوازن. فقضى به للايادي، وقال:

إن ثقيفاً لم تكن هوازنا ... ولم تناسب عامراً ومازنا

فقال المغيرة: أما نحن فمن بكر بن هوازن، فليقل أبوك ما شاء!

دير زرارة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015