وبعد اشتداد الحصار على النصارى طلبوا الأمان ونزل ملك بيت المقدس يترفق السلطان وذل ذلاً عظيمًا, فأجابهم صلاح الدين, ودخل المسلمون القدس ووفوا بالصلح المضروب مع النصارى, وشرعوا في تنظيف المسجد الأقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير, وأعيد على ما كان عليه زمن المسلمين, وغسلت الصخرة بالماء الطهور وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر, وأبرزت للناظرين, وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين, ووضع الصليب عن قبتها وعادت إلى حرمتها, وامتن السلطان صلاح الدين على بنات الملوك ومن معهن من النساء والصبيان والرجال, ووقعت المسامحة في كثير منهم وشفع في أناس كثير فعفا عنهم, وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر, ولم يأخذ منه شيئًا مما يقتني ويدخر, وكان رحمه الله كريمًا مقدامًا شجاعًا حليمًا (?) , وكان ذلك في بيت المقدس فقال: «لما تطهر بيت المقدس مما فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان والقسس, ودخله أهل الإيمان, ونودي بالأذان وقرئ القرآن ووحد الرحمن, وكانت أول جمعة أقيمت في اليوم الرابع من شعبان, بعد يوم الفتح بثمان, فصف المنبر إلى جانب المحراب, وبسطت البسط وعلقت القناديل وتلي التنزيل, وجاء الحق وبطلت الأباطيل, وصفت السجادات وكثرت السجدات وأقيمت الصلوات, وأذن المؤذنون, وخرس القسيسون, وزال البؤس, وطابت النفوس, وأقبلت السعود, وأدبرت النحوس, وعُبِد الله الأحد الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4،3].
وكبره الراكع والساجد, والقائم والقاعد, وامتلأ الجامع, وسالت لرقة القلوب المدامع, ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال, ولم يكن عيَّن خطيب فبرز من السلطان المرسوم الصلاحي وهو في قبة الصخرة أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيبًا, فلبس الخلعة السوداء وخطب للناس خطبة سنية فصيحة بليغة, وذكر فيها شرف بيت المقدس, وما ورد فيه من الفضائل والترغيبات, وما فيه من الدلائل