يخشون من سابق قدر الله فيهم, حيث يخافون من سوء الخاتمة, فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن جل جلاله يقلبها كيف يشاء وقيل له كيف أصبحت؟ قال: قريباً أجلي بعيداً أملي, سِّيئاً عملي (?). وهذا من عمق الإدراك وقوة تصور ما بعد الموت, وإذا كان محمد بن واسع الذي قيل عنه إنه أفضل أهل البصرة في زمنه يتهم نفسه بطول الأمل وسوء العمل فكيف بحال المقصرين (?) _ أمثالي. وذات يوم قال له رجل لمحمد بن واسع: أوصيني, قال: أوصيك أن تكون ملكا في الدنيا والآخرة, قال: كيف؟ قال: ازهد في الدنيا (?) وهذه وصية نافعة من طبيب ماهر في طب القلوب فهذا الرجل يطلب الوصية من محمد بن واسع فيوصيه بأعلى مرتبة تطمح لها النفوس عادة, وهي أن يكون ملكاً في الدنيا والآخرة, فيتعجب الرجل لأنه لم يرد الدنيا حينما طلب منه الوصية, ثم كيف يجمع بين الأمرين, فيكون ملكاً في الدنيا ولآخرة, فلذلك استفهم منه استفهام تعجب, فكان جواب ابن واسع له: ازهد في الدنيا (?) , ومن كلامه التربوى العميق قوله: ما آسى على الدنيا إلا على ثلاث: صاحب إذا اعوججت قوَّمني, وصلاة في جماعة يُحمَل عني سهوُها وأفوز بفضلها, وقوتٍ من الدنيا ليس لأحد منه فيه منّة ولا لله علىَّ فيه تَبِعة (?). فهذا العالم الرباني كان من ضمن جنود الفاتحين الذين نفع الله بهم شعوب المشرق, كأهل بخارى, وسمرقند وخراسان وغيرها.

6 ـ المشرق بعد مقتل قتيبة بن مسلم:

لم تحدث فتوحات إسلامية فيما تبقى في عهد الدولة الأموية في هذه الجهات بعد فتوحات قتيبة, وتوقفه عن كاشغر على حدود الصين, ذلك لأن الظروف التي مرت بها الدولة الأموية منذ هذا التاريخ, وحتى سقوطها سنه 132هـ - لم تكن تسمح بذلك. فقد انشغلت بالثورات التي بدأت تهب في وجهها من جديد مثل ثورات الخوارج وثورة يزيد بن المهلب في عهد يزيد بن عبد الملك 101 - 105 هـ كما أن الخلافات نشبت من جديد بين العرب في خراسان, وفي هذا الجو بدأت الدعوة السرية للرضا من آل محمد وهي الدعوة التي كان يوجهها العباسيون لمصلحتهم بكتمان ومقدرة رائعة, والتي نجحت في النهاية في الإطاحة بالدولة الأموية, كما أن التناحر والتنافس والنزاع قد احتدم بين أبناء البيت الأموي أنفسهم, وأصبحوا يقاتل بعضهم البعض, مما أضعف هيبة الدولة في عيون الناس, كما أن هذه البلاد نفسها التي فتحها قتيبة لم تكف عن التمرد والثورة ونقض العهود, فأصبح جهد الخلفاء والولاة منصبا - بعد مرحلة قتيبة - على إخضاع الثائرين والمتمردين وردهم إلى الطاعة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015