ضرب البيت بالحجارة (?) , وبالفعل بدأ يضرب الكعبة, وشدد على ابن الزبير, وتحرج موقفه وانفض عنه معظم أصحابه, ومنهم ابناه حمزة وخبيب, اللذان ذهبا إلى الحجاج وأخذا منه الأمان لنفسيهما (?). فلما رأى ذلك دخل على أمه فقال لها: يا أمه, خذلني الناس حتى ولديّ وأهلي, فلم يبق معي إلى اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة, والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا, فما رأيك؟ فقالت: أنت -والله- يا بني أعلم بنفسك, إن كنت تعلم أنك على الحق وإليه تدعو فامض له, فقد قتل عليه أصحابك, ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية, وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت, أهلكت نفسك, وأهلكت من قتل معك, وإن قلت: كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت, فهذا ليس من فعل الأحرار ولا أهل الدين, وكم خلودك في الدنيا, القتل
أحسن. فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال: هذا -والله- رأيي, والذي قمت به داعيًا إلى يومي هذا ما ركنت إلى الدنيا, ولا أحببت الحياة فيها, وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه, ولكني أحببت أن أعلم رأيك, فزدتني بصيرة مع بصيرتي, فانظري يا أمه فإني مقتول من يومي هذا, فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر لله, فإن ابنك لم يتعمد منكرًا, ولا عملاً بفاحشة, ولم يجر في حكم الله, ولم يغدر في أمان, ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد, ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته, ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي, اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي, أنت أعلم بي, ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني, فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنًا إن تقدمتني, وإن تقدمتك ففي نفسي, اخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك.
قال: جزاك الله يا أمه خيرًا, فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد. فقالت: لا أدعه أبدًا, فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق, ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل, وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة, وبره بأبيه وبي, اللهم قد سلمته لأمرك فيه, ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين (?) , فتناول يديها ليقبلها فقالت: هذا وداع فلا تبعد. فقال لها: جئت مودعًا لأني أرى هذا آخر أيامي من الدنيا, قالت: امض على بصيرتك وادن مني حتى أودّعك. فدنا منها فعانقها وقبلها فوقعت يدها على الدرع, فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد. فقال: ما لبسته إلا لأشد منك. قالت: فإنه لا يشد مني, فنزعها ثم أدرج كميه, وشد أسفل قميصه, وجبة خز تحت القميص, فأدخل أسفلها في المنطقة, وأمه تقول: البس ثيابك مشمرة, ثم
انصرف ابن الزبير وهو يقول:
إني إذا أعرف يومي أصبر ... وإنما يعرف يومه الحُر