نتقدم مَعَ ابْن حزم حَتَّى نجده يلتقي مَعَ ابْن عبد الْبر فِي أَكثر صحفه، وتنبه إِلَى هَذَا الالتقاء ناشرو سيرة ابْن حزم قائلين:
"وَقد أَفَادَ ابْن حزم فِي كِتَابه السِّيرَة مِمَّا صنعه من قبله شَيْخه ومعاصره أَبُو عمر بن عبد الْبر مؤلف كتاب "الدُّرَر فِي اخْتِصَار الْمَغَازِي وَالسير" وَنحن لَا نملك من هَذَا الْكتاب صُورَة كَامِلَة أَو وافية تدلنا إِلَى أَي مدى اعْتمد عَلَيْهِ ابْن حزم، وَلَكِن النقول القليلة الَّتِي احتفظ بهَا ابْن سيد النَّاس من كتاب أبي عمر الْمَذْكُور تؤكد أَن ابْن حزم قد نقل عَن شَيْخه نقولا مُتَفَرِّقَة فِي شَيْء قَلِيل من التَّصَرُّف، إِلَّا أَن نفترض أَن المؤلفين- نعني ابْن عبد الْبر وَابْن حزم- ينقلان عَن مصدر ثَالِث لم يَقع إِلَيْنَا".
وَلَو أَن ناشري الْكتاب رَأَوْا مخطوطة كتاب ابْن عبد الْبر لجزموا بِأَن ابْن حزم نقل عَنهُ مُنْذُ حَدِيثه عَن المبعث ص 44 أَكثر صحف كِتَابه مَعَ تصرف قَلِيل هُنَا وَهُنَاكَ. أما الظَّن بِأَنَّهُمَا رُبمَا نقلا عَن مصدر مُشْتَرك فيضعفه أَن ابْن عبد الْبر عين فِي سيرته مصادره الَّتِي نفذ من خلالها إِلَى وضع كِتَابه، فِي حِين لم يذكر ابْن حزم فِيمَا التقى بِهِ مَعَه مصدرا وَاحِدًا. وَحقا أَنه يُتَابع فِي حَدِيثه الْمفصل عَن الْغَزَوَات ابْن إِسْحَاق، سَوَاء فِي ترتيبها أَو فِيمَا تضمنته من الْأَحْدَاث وَمن أَسمَاء من شاركوا فِيهَا من الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين وشهداء الْأَوَّلين وقتلى وَأسرى الْأَخيرينِ، غير أَنه فِي الْوَاقِع يُتَابع فِي ذَلِك ابْن عبد الْبر، فقد مر بِنَا ذكره فِي تَقْدِيمه لكتابه هَذِه الْمُتَابَعَة، وَابْن حزم لَا يُتَابع ابْن عبد الْبر فِي نسق كِتَابه وَمَا تضمنه من الْأَحْدَاث وَأَسْمَاء الْأَعْلَام فَحسب، بل كثيرا مَا يُتَابِعه فِي سرد كَلَامه نَاقِلا نَص عباراته مَعَ شَيْء من التَّصَرُّف أَحْيَانًا، وَقد يتْرك النَّص الَّذِي يَنْقُلهُ عَن أستاذه دون أَي تصرف. ونراه يُتَابِعه فِي كثير من مراجعاته وآرائه، حَتَّى ليظن من لم يقْرَأ ابْن عبد الْبر أَنَّهَا ثَمَرَة اجْتِهَاده، من ذَلِك مُتَابَعَته لَهُ فِي أَن أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ لَا يَصح أَن يسْلك فِيمَن هَاجر من مَكَّة إِلَى أَرض الْحَبَشَة، يَقُول ابْن عبد الْبر: "وَقد جَاءَ فِي بعض الْأَثر وَقَالَهُ بعض أهل السّير "انْظُر ابْن إِسْحَاق فِي السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِابْنِ هِشَام "1/ 347" أَن أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ كَانَ فِيمَن هَاجر إِلَى أَرض الْحَبَشَة وَلَيْسَ كَذَلِك، وَلكنه خرج فِي طَائِفَة من قومه مُهَاجرا من بَلَده بِالْيمن يُرِيد الْمَدِينَة. فَرَكبُوا الْبَحْر، فرمتهم الرّيح بالسفينة الَّتِي كَانُوا فِيهَا إِلَى أَرض الْحَبَشَة، فَأَقَامَ هُنَالك حَتَّى قدم مَعَ جَعْفَر بن أبي طَالب" وقارن بذلك جَوَامِع السِّيرَة ص 58. وَمن مُتَابعَة ابْن حزم لأستاذه مَا ذهب إِلَيْهِ من أَن الزَّكَاة فرضت عقب الْهِجْرَة ومؤاخاة