العباسية بعلومها ومعارفها إلا أنه لم يتوفق إلى ذلك، ولا يخفى أن الأرغون الذي يعزف به في كنائس أوروبا في الوقت الحاضر إنما ورد إليها من بغداد في لأزمنة السالفة. أما البيانو فليس إلا فرعا منه.

قالت: يا عجبا أيصنع إلى الآن (أرغون) في بغداد؟ فقلت: كلا، فإنه ليس في بغداد حتى ولا من يعرف ما هو الأرغون.

قالت: إن ثروة البلاد إنما تحصل بترقي مثل هذه الصنائع والمعارف.

قلت: أن العلوم والمعارف والصنائع إنما هي مع المدنية نظير اللازم والملزوم تترقى بنسبة ترقي المدنية.

أما المدنية فهي نظير سائح يطوف العالم مصحوبا بالعلوم والمعارف وسائر أنواع التجملات واللطائف ففي الأزمنة المتوغلة في القدم جالت في مصر وبابل ومرت في طريقها على البلاد اليونانية حتى إذا سقطت هذه البلاد وصارت خرابا سارت إلى الإسكندرية وأشرقت أنوارها في حكومة الملوك البطالسة وزادت أيامها رونقا وبهاء.

ثم ذهبت في أيام الدولة العباسية إلى العراق وألقت عصا التسيار في بغداد مستعيضة بها عن باب، ثم سرت أشعة عمرانها إلى إيران وتركستان، وفي خلال ذلك امتدت من جهة إلى العرب فحلت فيا لأندلس.

ثم وردت على أوروبا فأشرقت فيه إشراقا، وكما أن الحكماء المسلمين أخذوا العلوم الحكيمة عن اليونانية وأضافوا محصول أفكار الحكماء اليونانيين على اختراعاتهم فوصلوا بالعلوم إلى درجة هي من الرفعة والتقدم بمكان عالي هكذا فعل الأوروبيين فإنهم رأوا محصول مساعي العرب حاضرا مهيئا فصرفوا إليه أفكارهم وغاياتهم، ورفعوا بجدهم شأن العوم والمعارف إلى درجة تحير العقول وتسحر الألباب، وفي الوقت الحاضر يوجد سهولة كلية للاستفادة من محصول مساعي الأوروبيين المشاهدة عيانا لأجل انتشار العلوم والصنائع عندنا.

قالت: إذا كان الواقعة هكذا يلزم الاهتمام بأصدقائهم القدماء.

قلت: لا شك أننا راغبون فيهم في حضرة سلطاننا الحالي فإنه منذ جلوه الهمايوني قد تقدمت المعارف والصنائع في بلادنا تقدما خارقا للعادة، ولا نرتاب أنه في وقت قريب نرى المعارف والصنائع إجمالا بحالتي الكمال والإتقان، ولا جرم أن مجيء السواح من أصحاب المعارف نظيركن إنما هو علامة بينة على ما تقدم.

قالت ذات الخدر: إذا حسن لديك أعطنا نوطة يروق لديك نغمتها وشقيقتي تعزف فيها البيانو.

فبيت الطلب وأتيتها بنوطة مخصوصة (بالأوبرا) فأخذتها ذات البعل ولحنتها على البيانو بأحسن تلحين أطربنا وأدهشنا ولعمر الحق إنني إلى هذا العهد ما كنت سمعت بمثل عزفها، وقد كانت كلما جئناها بنوطة تبادر إلى تلحينها في الحال فتحققت من ذلك أنها بلغت في هذا الفن الدرجة المطلوبة، ثم أطربتنا بإيقاع بعض الألحان المحفوظة في ذاكرتها، فجعلتنا حيارى من مهارتها، ثم أخذت الشقيقتان تعزفان على البيانو بوقت واحد أي بأربع أيد مما يقال له بالفرنسية: (كاترمن) فأطربتنا أيما إطراب وشهدنا لذات الخدر أنها من البارعات جدا في هذا الفن.

فقلت لهما: ناشدتكما الله أن تعفيانا من الإيقاع على البيانو بعد هذا الذي سمعناه.

فقالت ذات البعل: إذا حسن أطربينا ببعض الأنغام التركية.

فقلت لها: لا بأس، إننا نلحن بعض الألحان التركية وإذا شئت بآلة تركية.

قالت: أكون ممتنة للغاية.

وبعد أن وقعت والسيدتين "ص" و"ن" كل منا بفصل على البيانو من الأنغام التركية نهضت إحدانا إلى العود.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015