أما الراهبة التي كانت ملازمة للصمت المطلق ولم تشترك معنا بالحديث بل ربما كانت لم تهتم بمحاورتنا أصلا فإنها عندما سمعت مني هذا الجواب التفت إلى قائلة: ما هي مائدة عيسى التي تقلدونها.

قلت: لا يخفى أن الحواريين وإن كانوا قد أبصروا لحضرة - عيسى عليه السلام - أعمالا كثيرة من خوارق العادات إلا أن جميع ذلك كان من المعجزات الأرضية، فلما رغبوا في أن يبصروا معجزة سماوية وقالوا له: (يا عيسى بن مريم أينزل ربك علينا مائدة من السماء) أجابهم قائلا: (إذا كنتم مؤمنين فاتقوا الله) فقالوا له حينئذ: (نريد أن نأكل من هاته المائدة وتطمئن قلوبنا ونعلم علم اليقين أنك من الصادقين ثم نكون على المائدة المذكورة من الشاهدين) . فقال حضرة عيسى: (يا رب أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا منك على نبوتي) . فقصة المائدة مذكورة في القرآن الكريم على الوجه المشروح.

قالت الراهبة: فهل نزلت مثل هذه المائدة.

قلت: نعم فقد ذهب المفسرون إلى أنه بناء على دعاء حضرة عيسى أنزلت الملائكة مائدة من السماء وكانت مائدة مغطاة بمنديل قد نزلت على حين كانت من طرفيها الأعلى والأسفل ملفوفة بقطعة من نسيج فرفع عيسى - عليه السلام - غطاءها بعد أن شكر الحق سبحانه وتعالى وقد رأى الحواريون ذلك رأى العين فكان عليها مأكولات متنوعة، وقد اختلفت الرويات في أشكال وأنواع هذه المأكولات. والرواية المشهورة تفيد أنه قد كان على المائدة - المذكورة - خبز وسمك وبعض الخضروات، وسمن وعسل وجبن ومقددات، فنحن نجمع مثل هذه الأشياء ونرتب مائدة الإفطار على هذا الوجه وبعد الإفطار منها تبركا نبدأ بمناولة طعام المساء الأصلي.

وعقيب هذه المحاورة تكلم الزائرتان عن طعام الأتراك فوقعت لديهما حلوى صدر الدجاج موقع الاستحسان التام وأثنتا على لذتها واعترفتا بأن الطعام إجمالا خفيف جدا، ثم انتقلتا إلى البحث عن الصيام فبعد إذ أحاطت المدام علما أن الصيام هو عبارة عن عدم الكل والشرب من قبل الفجر إلى المساء. قالت بلسان رقيق: إن الصيام على هذا الوجه إنما هو عبادة صعبة جدا. وكأنها تحاول أن تجعلنا نعترف نحن أنفسنا بقدر هذه الصعوبة.

فقلت لها حينئذ: ليس في ذلك من صعوبة على الإطلاق بالنظر إلى ما أوتيناه من الألطاف الإلهية. لا جرم أن القطاعات والرياضات عند المسيحيين ليست بأقل كلفة من الصيام حتى إنه على حين إن أرباب الزهد والتقوى في النصرانية من رجال ونساء وهم الذين انقطعوا إليهما وتحرروا من سائر الأشياء لم يكونوا بنادرين نرى إنهم لا يكاد يمرون على خواطرهم قضية كونهم عرضوا أنفسهم لصعوبة خارجة عن حد الاستطاعة بانقطاعهم عن الانتفاعات واللذات الدنيوية فما تقولين بذلك يا عزيزتي؟.

قالت الراهبة: أقول إنه مهما حصل من العبادات في سبيل الشكر للطف الله وإحسانه يكون قليلا.

قلت: لا ريب في ذلك حتى إنه قد ورد النص في القرآن الكريم بحق الرهبان حيث تفضل الحق سبحانه وتعالى بقوله: من أشد الناس عداوة للمؤمنين اليهود والمشركون وأقرب الناس مودة للمؤمنين الذين قالوا إنا نصارى وذلك لأن منهم قسيسين (علماء) ورهبانا (زهادا) وإنهم لا يستكبرون ولا يأبون قبول الحق وبعد أن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015