فيمشون يشتدون غيظا وشرة ... وما منهم إلا أب وغيور
فإن لم أزر بالجسم خيفة معشر ... فللقلب آت نحوكم فيزور
ثم رجع الصبي فأنشد أبياتها فغشي عليه ساعة، ثم أفاق وهو ينشد:
أظن هوى الخود الغريرة قاتلي ... فيا ليت شعري ما بنو العم صنع
أراهم وللرحمن در صنيعهم ... تراكي دمي هدرا وخاب المضيع
وقد زفت ظريفة إلى رجل منهم يقال له: ثعلب، فلما بلغه الخبر اضطرب سعة وغشي عليه فحرك فإذا هو ميت فلزمت ظريفة البكاء أياماً ولم تمكن الرجل من نفسها فلما كانت ذات ليلة خرجت من بعد نصف الليل فتبعها زوجها حتى انتهت إلى النهر فألقت نفسها فيه فأخرجها، وليس بها حراك ثم حملها إلى الخيمة.
فلما أصبح جاءت أمها فوجدت بها رمقاً ولكنها لم تفقه كلامها، فأشارت أن تسقى الماء فسقوها فقضت من وقتها ودفنت بجانب زرعة بن خالد بعدما نقلت إلى محل مدفنه.
كانت في زمن الملك عمرو بن عامر مزيقيا الحميري وهي التي تنبأت في سيل العرم، وكانوا يسمونها ظريفة الخير، وكان أول شيء وقع بمأرب بينما هي ذات يوم نائمة إذ رأت فيما يرى النائم أن سحابة غشيت أرضها وأرعدت وأبرقت، ثم أصعقت فأحرقت ما وقعت عليه ووقعت إلى الأرض فلم تقع على شيء إلا أحرقته، ففزعت لذلك وذعرت ذعرا شديدا، وانتبهت وهي تقول: ما رأيت مثل اليوم قد أذهب عني النوم رأيت غيما برق وأرعد، ثم أصعق فما وقع على شيء إلا أحرقه فما بعد هذا إلا الغرق، فلما رأوا ما داخلها من الرعب خفضوها وسكنوا من جأشها حتى سكنت، ثم إن الملك عمرو بن عامر دخل حديقة من حدائقه ومعه جاريتان له فبلغ ذلك ظريفة فأسرعت نحوه وأمرت وصيفا لها يقال له: سنان أن يتبعها.
فلما برزت من باب بيتها عارضها ثلاث [مناجذ] منتصبات على أرجلهن واضعات أيديهن على أعينهن (وهي دواب يشبهن اليرابيع يكن بأرض اليمن) .
فلما رأتهن ظريفة وضعت يدها على عينها وقعدت وقالت لوصيفها: إذا ذهبت هذه [المناجذ] عنا فأعلمني، فلما ذهبت أعلمها فانطلقت مسرعة.
فلما عارضها خليج الحديقة التي فيها عمرو وثبت من الماء سلحفاة فوقعت على الطريق على ظهرها وجعلت تريد الانقلاب فلا تستطيع فتستعين بذنبها وتحثو التراب على بطنها وجنبها وتقذف بالبول، فلما رأتها ظريفة جلست إلى الأرض.
فلما عادت السلحفاة إلى الماء مضت إلى أن دخلت على الملك عمرو في الحديقة حين انتصف النهار في ساعة شديد حرها فإذا الشجر يتكفأ من غير ريح، فغدت حتى دخلت على عمرو ومعه جاريتان على الفراش.
فلما رآها استحيا منها وأمر الجاريتين فنزلتا عن الفراش وقال: هلمي يا ظريفة إلى الفراش واجلسي إلى جانبي فتكهنت وقالت: والنور والظلماء، والأرض والسماء. إن الشجر لهالك وسيعود الماء كما كان في الدهر السالف.
قال عمرو: من أخبرك بهذا؟ قالت: أخبرني [المناجذ] بسنين شدائد يقطع فيه الوالد الواحد. قال: ما تقولين؟ قالت: أقول قول الندمان لهفا، قد رأيت سلحفا تجرف التراب جرفا، وتقذف البول قذفا، فدخلت الحديقة فإذا الشجر يتكفأ. قال عمرو: متى ترين ذلك؟ قالت هي داهية كبيرة ومصائب عظيمة لأمور جسيمة.
قال: وما هي؟ قالت: إن لي الويل، وما لك فيها من نيل، فلي ولك الويل مما يجيء به السيل.