في ابتداء أمرنا على أرفع الرتب اللائقة بمثلنا، وها هو مجتهد أيضا.
وأما من جهة كونه مجهول الأصل فنحن أيضا لا نعلم أصلنا لأن الواحد منا لا يعلم أصل نفسه ولا من هم أهله، فمن هو جركسي، ومن هو مرلي، ومن هو كريدلي، وقد أخرجنا من بلادنا ما نعلم ماذا يؤل أمرنا إليه، وها نحن والحمد لله قد صرنا من خواص رجال الحكومة المصرية ولم يزل به حتى أنعم له رائف باشا بعد امتناعه جملة سنين وعقد للغلام على شرفية وشرعوا في أمر الجهاز وما يلزم للفرح وكأن شرفية في ذاك الوقت قد أحيي ميت آمالها وأدهشها الفرح الشديد عن كل ما في الكون.
ولكنها وا أسفاه لم يسمح لها الدهر بإتمام تلك الأفراح حتى هجم عليها بجيوشه الجبارة وصدمها صدمة تزول من هولها الجبال والراسيات ويذوب لها الحجر الجلمود.
وذلك أنه لما بقي لإقامة الفرح أسبوع واحد حم الغلام ووقع رهين الفراش ولم يمكث بعد ذلك سوى أيام قلائل حتى توفاه الله وقصف غصن شبابه النضر، وانزوى جماله تحت أطباق الثرى. سبحان الحي الباقي الذي لا يموت.
فلينظر الرائي إلى حال شرفية التي يعجز القلم عن وصف حالها وما صارت إليه من الحزن والكدر حتى أنها دخلت إلى غرفتها التي سمتها بيت الأحزان وأسلبت عليها الستور وصارت تندب حبيبها وتبكيه إلى الآن وتوفي بعد ذلك خالها رائف باشا ولم تزل إلى هذا الوقت مدفونة تحت أطباق الحزن تطلب الموت لعلها تجتمع بحبيبها في العالم الآخر فلم تجد لذلك من سبيل. ولها مسجونة في بيت حزنها ما يزيد على الثلاثين سنة وقل من يصبر على هذا المصاب.
من ولد كسرى أنوشروان. ان يتيمة في حجر رجل من الأشراف، وكان (أبرويز) صغيرا يدخل منزل ذلك الرجل فيلاعب شرين وتلاعبه فأخذت من قلبه موضعا فنهاها عن ذلك الرجل فلم تنته فرآها. وقد أخذت في بعض الأيام من (أبروزير) خاتما فقال لبعض خواصه: اذهب بها إلى الدجلة فغرقها، فأخذها الرجل ومضى فقالت له: وما الذي ينفعك من تغريقي؟ فقال: قد حلفت لمولاي. فقالت: اقذفني في مكان رفيق فإن نجوت لم أظهر وبرئت من يمينك ففعل وتوارت في الماء حتى غاب وصعدت إلى دير فترهبت فيه وأحسن إليها الرهبان.
فلما تقرر الملك لأبرويز بعد أبيه هرمز مر بذلك الدير رسل قيصر أبرويز فدفعت الخاتم إلى رئيسهم وقالت: ابعث به إلى أبرويز لتحظى عنده فأرسله وعرفه مكان شرين فسر سرورا عظيما، وأرسل إليها فأحضرها، وكانت من أجمل النساء وأظرفهن ففوض إليها أمره وهجر نساءه وجواريه وعاهدها أن لا تمكن منها أحدا بعده، وبنى لها القصر المعروف بقصر شرين بالعراق، فلما قتل (شيرويه) أباه (أبرويز) راودها عن نفسها فامتنعت، فضيق عليها واستأصلها ورماها بالزنا وتهددها بالقتل إن لم تفعل فقالت: افعل على ثلاث شرائط. قال: ما هي؟ قالت: تسلم إلي قتلة زوجي حتى أقتلهم، وتصعد المنبر وتبرئني مما قذفتني به وتفتح لي تاوس أبيك، فإن له عندي وديعة عاهدني إن تزوجت بعده رددتها إليه.
فدفع إليها قتلة أبيه فقتلتهم وبرأها، وقيل: فتح لها تاوس أبيه وبعث الخادم معها فجاءت إلى (أبرويز) فعانقته ومصت فصا مسموما كان معها فممات من وقتها وأبطأت على الخدم فصاحوا فلم تكلمهم، فدخلوا فوجدوها معانقة لأبرويز ميتة فهذه ممن يفتخر لهن بالوفاء.