أما "ماريا لويزا" فلم تكن مفكرة إلا بنفسها وقد أبت أن تصحب "نابوليون" في انحطاطه، وأما "جوزفين" فكتبت إليه رسالة تقول فيها:
"إني أقدر أن أتصور الآن مقدار مصيبة انفكاك اتحادنا الذي فكته الشريعة وإني الآن أندب حظي ويشق علي أنني لست صديقة لك. ومن لا يحزن ويقطر قلبه دما عند حلول مصيبة هذا مقدارها. آه يا سيدي، حبذا لو كان بوسعي أن أطير غليك وأؤكد لك أن البعد لا يغير إلا ذوي العقول السخفية ولا يستطيع أن يلاشي محبة خالصة زادت المصائب قوتها. لقد أوشكت أن أترك فرنسا وأتبع خطواتك وأخصص لك بقايا حياة أنت زينتها لو كنت أعلم أني أنا الوحيدة التي ستتم واجباتها باتباعك لكنت أذهب على ذلك المكان الوحيد الذي فيه سعادتي وأسليك في وحدتك وتعاستك، قل كلمة واحدة وأنا أذهب حالا، وأما الآن فأستودعك الله يا سيدي لأني مهما زدت على ذلك قليلا جدا، وعواطفي بعد الآن لا تبرهن لك بالكلام بل بالعمل وأرجو أن تسلم بذلك لأنه ضروري".
وبعد كتابة هذه الرسالة بأيام قليلة تناول الإمبراطور "إسكندر" وبعض أصحاب الألقاب والرتب طعاماً مع "جوزفين" وفي أول المساء خرج الجميع بنور الشفق إلى خارج وخرجت "جوزفين" معهم، وكانت صحتها منحرفة بسبب الأحزان والأكدار فشعرت بزكام شديد وجعل يزداد يوما فيوما وتنحط معه صحتها وقوتها حتى حكم الطبيب بدنو أجلها، وكان ولداها "أيوجين" و"هورتنس" لا يفارقانها ليلا ولا نهارا، وأخبراها بكلام الطبيب فتلقت تلك البشرى بفرح وسرور وسألت حضور قسيس فحضر وأتم الفروض الدينية، ثم دخل عليها الإمبراطور "إسكندر" فرأى ولديها "أيوجين" و"هورتنس" جاثيين عند فراشها وقد غسلتهما الدموع فأومأت "جوزفين" إلى الإمبراطور أن يقرب منها، فلما اقترب قالت له ولأولادها: "كنت دائما أشتهي سعادة فرنسا وقد فلت كل ما في طاقتي لأجل ذلك وها أناذا أقول لكم في الدقيقة الأخيرة من حياتي أيها الحاضرون الآن إن امرأة "نابوليون الأول" لم تسبب مطلقا انسكاب دمعة واحدة من عين واحدة".
ثم طلبت صورة الإمبراطور، فلما أحضروها التفتت إليها وعلامات الرقة والمحبة تلوح على وجهها ثم أخذتها وقربتها إلى صدرها ووضعت يديها فوقها وصلت قائلة: "اللهم أحرس الإمبراطور مدة بقائه في صحراء هذه الدنيا واأسفاه إنه ارتكب غلطات فاحشة ولكنه لم يعوض عنها بآلام عظيمة، وأنت وحدك أيها الإله قد عرفت قلبه وعلمت أنه كان في نفسه أميال شديدة على صلاح أشياء كثيرة، فتنازل واصغ إلى تضرعي الأخير. واجعل هذه الصورة صورة زوجي تشهد أن رغبتي وصلاتي الأخيرة كانتا لأجله ولأجل أولادي".
وكان ضلك في التاسع والعشرين من شهر أيار (مايو) سنة 1814م، وكانت الشمس قد قاربت الغروب فألقت بعض أشعتها المذهبة من نوافذ غرفة "جوزفين" المفتوحة، وكان النسيم اللطيف يتلاعب بالأشجار والطيور تغرد فيها. وبين حفيف الأشجار وتغريد الأطيار القت "جوزفين عينيها على صورة "نابوليون" وأسلمت الروح، فلما رأى الإمبراطور "إسكندر" أنها قد فارقت الروح قال والدموع تتساقط من عينيه: "ليست بعد تلك المرأة التي سمتها فرنسا: "محبة الخير، وملاك الصلاح"، وكل هؤلاء الذين عرفوا "جوزفين" لا ينسونها فإنها ماتت وتركت الأسف الشديد لأولادها ولأصدقائها ومعارفها".
وبعد موتها بأربعة أيام احتفل بجنازتها، وكان ذلك في الثاني من حزيران (يونيو) عند الظهيرة فأخذوها