وفي اليوم المعين لإنهاء نظام الانفصال اجتمع المحفل ثانية في نادي الإمبراطور العظيم ليشهدوا تمام نظام الانفصال, فدخل الإمبراطور بحلته الرسمية واصفرار الموت على وجهه, وعلامات اليأس والقنوط تلوح عليه واستند إلى أحد الأعمدة مكتوف اليدين لا يفوه بكلمة وبقي برهة غائصا في بحور الافتكار كالصنم لا يبدي حراكا, وكان في وسط النادي مائدة جميلة وعليها كل أدوات الكتابة من الذهب الإبريز, أمامها كرسي أعد ل "جوزفين" وكان جميع الحاضرين صامتين لا يفوهون بكلمة وكلهم شاخص إلى المائدة وما عليها كأنهم ينظرون إلى مذبحة أو مشنقة معلقة, ففي وسط هذا فتح باب من جانب المنتدى, ودخلت منه "جوزفين" مستندة إلى يد ابنتها "هورتنس" واصفرار الموت يلوح على وجه كل منهما ولما دخلا غلب البكاء على "هورتنس" ولم تنفك عن ذلك كل مدة الاجتماع.

ولما دخلت "جوزفين" نهض الجميع إجلالا لها وتساقطت العبرات من عيونهم لشدة تأثرهم من منظرها. أما هي فتقدمت بحركاتها اللطيفة إلى المكان المعد لها, وارتفقت بيدها على وجهها وأصغت إلى قراءة نظام الانفصال والدموع تسكب من عينيها, وكان ابنها "أيوجين" جالسا على مقربة منها وبعد نهاية قراءة النظام حسمت "جوزفين" دموعها وانتصبت واقفة وأخذت على نفسها عهد الانفصال بصوتها الرائق العذب الاعتيادي, ثم جلست وأخذت قلما ووقعت اسمها بفك أمتن ربط المحبة والوداد التي لا يمكن للعقل البشري أن يتصورها, أو للقلب الإنساني أن يشعر بها, ثم استندت ثانية إلى يد ابنتها وخرجت من المكان أما "أيوجين" فوقع على الأرض مغمى عليه.

أما شدة ذلك اليوم وآلامه فلم تكن قد انتهت, بل كان على "جوزفين" وهي في وسط توهانها في بحور الأحزان ما كان آلم وأشد عذابا من الأول وهو وداع من كان زوجها الوداع الأخير, فانتظرت في غرفتها وهي حزينة القلب مكسورة الخاطر لا تفوه بكلمة, فلما حان الوقت أتى "نابوليون" إلى غرفته قلقا كئيبا بسبب ما جرى ورمى بنفسه على فراشه.

وفي الساعة نفسها فتح الباب الذي بين غرفته وغرفة "جوزفين" ودخلت هي منه وهي ترتجف وعيناها وارمتان من البكاء وشعرها مسدول على أكتافها وعلامات الحزن والغم الشديدين تلوح على وجهها فتقدمت إلى وسط الغرفة ودنت من سرير "نابوليون", ثم وقفت بغتة وغطت وجهها بيديها وصارت تبكي بكاء شديدا, وكان ذلك لأنها افتكرت حينئذ أنه لا حق لها بعد في الدخول إلى غرفة "نابوليون" ولكن محبتها الشديدة له حالا تهيجت وأنستها كل ذلك, فتقدمت إليه وطرحت نفسها بجانبه وغمرته بيدها وصارت تدعوه باكية منتحبة, فتهيجت عواطف "نابوليون" وجعل يؤكد لها محبته الصحيحة الصادقة وهو يبكي وينتحب ويثبت لها أنه سيبقى كذلك إلى يوم موته واجتهد لكي يسليها ويعزي قلبها وبقيا على ذلك برهة من الوقت, ثم قامت "جوزفين" وودعت زوجها الذي أحبته كل هذه السنين الوداع الأخير وافترقت عنه إلى الأبد.

وفي اليوم الثاني ودعت "جوزفين" البلاط وأهله وفي الساعة الحادية عشرة اجتمع كل حاشية "التوبلمري" على أعلى السلالم وفي الشبابيك والمماشي ليروا افتراق سيدتهم المحبوبة التي كانت زينة ذلك القصر وبهجته, فنزلت على السلالم مغطاة بمنديل من قمة رأسها على قدمها والدموع ملء عينيها فصارت تلوح بمنديلها علامة الوداع للأصدقاء الباكين حولها إلى أن وصلت على الباب, وهناك وجدت عجلة مطبقة باستنظارها يجرها ستة من الخيول الجياد فدخلتها وسارت بها وتركت وراءها "التوبلمري" إلى الأبد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015