دائمة البكاء.
ولما لم يُجدها الإلحاح نفعاً استعادت من معبد "رام" سلاحها وبرزت ثانية في زي الأبطال غير أن كبراء القادة وأمراء الجيش كانوا قد أشربوا بغضها وأضمروا لها الحسد والضغينة فصاروا يشنعون عليها ويسيئون معاملتها، ويغرون العساكر على نبذ طاعتها، ويلقبونها بالألقاب المستهجنة، ويتهمونها بهتك حجابها، ويفضحونها أمام العموم، فكانت تردهم أقبح الرد ولا تجالس إلا حرائر النساء ومصونات الأبكار، ولا تنام إلا مع امرأة تخفرها، فلم يجد أحد فيها محلاً للوم والقذف، ومع أنها جرحت جراحات لم يثبت كونها سفكت بيدها دم أحد، ثم أشارت على الملك بالشخوص إلى باريس ليستخلصها من يد الإنكليز فساروا و"جان دارك" سائرة في ركابه حتى إذا بلغها بعد شق الأنفس أمرها بالهجوم على "قويورسنت" أو ترى حيث يقيم الأعداء فأثخنت في تلك الواقعة جرحاً، وصرعت صرعات، ولما استعادت رشدها قامت فعلقت درعها وسألت الملك الانصراف فأبى ووعدها بإعفاء قريتها من الضرائب ومنحها رتبة جليلة، فعاودت الخدمة مرغمة.
وفي سنة 1430م انتدبها الملك إلى إجلاء الإنكليز عن "كوبيين" فسارت متدرعة بالإقدام بيد أنها لما أرادت الإيقاع بالحاضرين خذلها أتباعها فرميت بسهم، فصرعت واستسلمت إلى الأمير "فندوم". وذلك في 24 أيار سنة 1430م، فذاع خبر أسرها في تلك الأصقاع، وأقبل الناس لرؤيتها ثم بويعت للإنكليز وخذلها الملك "شارل" جاحداً جميلها، كافراً نعمتها، لؤماً منه وخسة أصل، وخاض الناس في حديثها، وكان أهل باريس يشدون عليها النكير، ويغرون الإنكليز على إتلافها، فلبثت مسجونة في قعلة "جان دولكسنبرغ" حتى أقيمت عليها الدعوى في 13 شباط سنة 1431م تحت رياسة "كوشون مترنه بوفه"من صنائع "هنري السادس" عامل الإنكليز فسيقت إلى المحكمة ست عشرة مرة أبدت في خلالها ثباتاً عجيباً، ودفاعاً مفحماً على أنهم حكموا أخيراً بأنها مبتدعة ساحرة وبأن تجازى بالحبس الأبدي مقصوراً قوتها على الخبز والماء، ثم أرغموها على الحلف بأن لا ترتدي بعد ذلك بلباس الرجال، ثم نصبوا لها شركاً بأن بدلوا ثيابها ليلاً بثياب رجل.
فلما أرادت ترك فراشها لم تجد سوى تلك الثياب، فلبستها مضطرة، فهوجمت وسيقت إلى الحاكم بهذا الزي فحكم بأنها حانثة تستحق الإحراق فقالت بثبات وجلال: إنني أستأنف حكمك إلى عرش الحكيم العظيم، ولكنها لما أخرجت إلى حيث استوقدت النار خارت قواها فأتت متأوهة، ولما حمي الوطيس ولعلع اللهيب فيه جعلت تدعو وتبتهل بلسان أبكى أعداءها، وحير الكردينال "بوفور" فحول وجهه عنها تألماً والدموع تنهدر من مآقيه كالسواقي وقد تم هذا المشهد الأثيم في 21 أيار 1430م في ساحة تسمى "موضع البكر"، وذرى رمادها بالهواء فوق نهر السين، ثم بعد عشرين عاماً نقض مطران باريس ومطران "رام" هذا الحكم وأثبتا براءتها.
وفي سنة 1820م أقيم لها تمثال في موطنها "دومرمي" وآخر في محل إحراقها "دون" ثم آخر في باريس وهو أجمل تماثيلها.
وفي سنة 1851م نصب لها أهل "أورليان" تمثالاً في مدينتهم وهم يعيدون تذكارها في 8 أيار في كل عام وقد عاب الرأي العام "فوليت" بقصيدته التي أودعها ذم "جان دارك" وتسويد صحيفتها بأنواع السب الظالم والقذف الغادر، ولكنه لا يستغرب ذلك ممن أوقف حياته على تقويض عمد الديانات، وتزييف أوليائها، وقد ألف كتبة الإفرنج بموضوع قصتها عدة روايات محزنة من النوع المعروف "بالتراجيدي" أي الفاجعة وهي مما يذيب تمثيلها القلوب ويشق المرائر فيا قاتل الله الإنسان إنه لكافر.
ليت السباع لنا كانت مجاورة ... وليتنا لا نرى ممن نرى أحدا
إن السباع لتهدا عن فرائسها ... والناس ليس بهاد شرهم أبدا