وقد دعا نوح على قومه فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27]، ولذلك قال نوح: (إنه كانت لي دعوة فدعوت بها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم) إلى الخليل إلى الحليم الأواه إلى حبيب الله بلا نزاع إلى هذا النبي الكريم الذي حرم الله على النار أن تمس جسده: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
قال: (فيأتون إبراهيم الخليل عليه السلام ويقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله، وأنت خليل الله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول خليل الله إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ويذكر إبراهيم كذباته، ثم يقول: نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري).
كذباته؟! وهل كذب إبراهيم؟ والجواب من صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، اثنتين منهن في ذات الله، أما الأولى: فقوله: إني سقيم)، متى قال إبراهيم هذه العبارة؟! يوم أن كان شاباً صغيراً وقد نشأ في قوم يعبدون الأصنام ودعاه والده ليخرج مع القوم في عيد عبادة الأصنام، فتعلل إبراهيم بالمرض وقال: إني سقيم؛ لأنه لا يريد أن يسجد لغير رب العالمين.
قال: (وأما الثانية: فقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63])؛ وذلك لما حطم الأصنام، وعلق الفأس في رأس كبير هذه الآلهة المدعاة، فلما عادوا وقالوا: من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين، رد البعض بلغة التحقير، التي هي ديدن الظالمين في كل زمان وأوان: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء:60 - 61]، ثم وجهوا له هذا
Q { أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:62 - 63]، هذه هي الكذبة الثانية لإبراهيم.
وأما الكذبة الثالثة: يوم أن خرج مهاجراً بزوجته سارة فنزل مصر، وكان في مصر في ذلك الزمان جبار من الجبابرة، أسأل الله أن يطهر مصر في كل زمان وأوان، فلما مر بـ سارة عليها السلام نقل بعض الناس لهذا الجبار: أن رجلاً قد نزل بأرضنا معه امرأة من أجمل الناس، فأرسل هذا الجبار الخبيث بالشرطة فجاءت بإبراهيم، فقال له: من هذه؟ قال إبراهيم: إنها أختي، ولم يقل: إنها زوجتي، فلو قال: إنها زوجتي لقتله ليخلص إليها، فقال: إنها أختي، ثم عاد إبراهيم، فقال لها: يا سارة! لقد سألني هذا الرجل عنك، فقلت: إنها أختي، فإنه لا يوجد على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، فأنت أختي في دين الله جل وعلا، فإن سألك فاصدقيني ولا تكذبيني، ثم أرسل هذا الخبيث الجبار إلى سارة فأتي بها فلما دخلت عليه، ونظر إليها، قام إليها ليلمسها بيده، فشل الله يده، -والحديث في صحيح البخاري - فقال لها: ادعي الله عز وجل ولا أضرك بعدها، فدعت الله فأطلق الله يده، فقام إليها الخبيث مرة ثانية ليتناولها بيده فشل الله يده، فقال: ادعي الله ولا أضرك بعدها، فدعت الله فأطلقت يده، فنادى على بعض حجبته، وقال: إنكم لم تأتوني بإنسان، وإنما أتيتموني بشيطان اخرجوا بها وأخدموها هاجر، فأعطاها هاجر عليها السلام؛ لتخدمها وهي التي تزوجها إبراهيم بعد ذلك، فعادت سارة بـ هاجر فرأت إبراهيم يصلي لله جل وعلا، فلما انصرف من صلاته قال: مهيم؟ يعني: ماذا فعل الله بك؟ فقالت سارة: رد الله كيد الفاجر وأخدم هاجر، أي: وأعطاني هاجر خادمة لي، وهكذا صان الله عز وجل عرض نبيه إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، هذه كذبات إبراهيم!