وأقسم بالله! لو أن كل مسلم في مصر وفي غير مصر حاكماً كان أو محكوماً وضع هذا الأمر -وهو اليوم الآخر- نصب عينيه لصلح حال المسلمين؛ لأن الإنسان عندما يضع في ذهنه أن المظالم يوم القيامة لن يدافع أحد عن أحد فيها فلن يأكل أحد حق أحد.
فـ أبو بكر لم تحتمل بطنه -التي لا تتعود إلا على الحلال- جرعة لبن شك في مصدرها، فبعد ما شرب قال له خادمه: يا خليفة رسول الله! ألا تسألني من أين أتيت به؟ فسأله عن ذلك فقال: تكهنت لقوم في الجاهلية، أي: كنت أعمل كعراف يقرأ الحظ أو كعبقري الفلك أو شيئاً من هذا القبيل فلما مررت عليهم وكان عندهم عرس أعطوني قليلاً من اللبن، فوضع أبو بكر أصبعه في فمه فتقيأ ما شرب ثم نظر إلى السماء وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما علق باللحم والعروق.
فكيف الحال بمن يأخذ مال أخته، أو يغتصب أرض أخيه، فيجب أن يُسمع مثل هذا الكلام بأذن القلب لا بأذن الرأس، ويجب أن ينفتح القلب لمثل هذا الكلام.
والله! لو أدرك المسلمون مسألة هول المطلع يوم القيامة لصلح حالهم كما قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: ثلاث أحزنتني حتى أبكتني: فراق الأحبة محمد عليه الصلاة والسلام وحزبه، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الله عز وجل.
ويروى أن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه عندما يرى امرأته قد أشعلت النار يقرب إصبعه من النار ويقول: يا ابن الخطاب! ألك صبر على مثل هذا؟ ويبكي حتى تظن زوجته أنه لن يسكت.
والإنسان الذي يدمن شرب الدخان قد يشعر بالحرارة على أصبعه أفلا يتذكر مثل هذا الشخص دخان النار يوم القيامة؟! فالنار أمام فيه ولو نسي نفسه بالكلام ستحرق السيجارة يديه، فهو بذلك يحرق جسمه ويحرق فلوسه ويحرق صحته ويحرق نعمة الله عز وجل، ويدعي أن الشيخ يقول: إنها مكروهة، وهذا خطأ فادح فهي حرام؛ لأن أصل التدخين يلوث الأخلاق ويلوث هواء البيئة الخلقي، فضلاً عن تلويث الهواء النقي على الآخرين، وبعضهم يقول: إن التدخين حرام لكن الشيشة ليست حراماً؛ لأن الشيخ الفلاني أفتى بذلك، فيقتطع ما أعجبه من الفتوى.
ومن الغريب أن نجد في أوساط المسلمين أعداداً كثيرة ممن يدعون الفقه ويتصدرون الفتوى وهم لا يجيدون ولا يتقنون ما يتكلمون فيه، فإن الإنسان -لا قدر الله- إذا أراد أن يؤلف قطعة موسيقى فإنه لا يستطيع إلا إذا أتقن فن الموسيقى، وكذلك في اللعب وفي غيرها.
فالعبد لو وضع الآخرة نصب عينيه لما ظلم الظالم ولما ارتشى المرتشي، ولما اختلس المختلس، ولما كذب الكذاب، فالكذاب يكذب لأنه ظن أن ربنا ما سمعه، والعبد يعصي لأنه يظن أن الله لا يراه، وهذا بسبب انعدام المراقبة التي كانت موجودة في قلوب الصحابة ومنهم أبو بكر الذي سئل: كيف خوفك من الله؟ قال: ما خطوت خطوة إلا ورأيت الله أمامي، وكان رضي الله عنه لا يتحلل من ثيابه بمفرده في الحجرة، فسئل: لماذا تفعل هذا يا خليفة رسول الله؟! قال: أستحي إن ربي معي.
وبهذا تحقق معنى الإحسان الذي هو: (أن تعبد الله كأنك تراك فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، والمصيبة أن يحفظ الإنسان هذا الكلام دون العمل به.
وقد يهتم الناس بالمظاهر فلا يراقبون الله، ومثال ذلك: إذا جاء ولد صغير مع أبيه فإن الناس يمدحون الولد ويمسحون رأسه، بينما لو جاء ولد فدخل الصف الأول ووالده لم يكن معه فإنه سيُنهر ويُزجر.
وكذلك قد يأتي صاحب سيارة أجرة يريد البنزين فيصادف أن يكون العامل مشغولاً، فلا يُجيب صاحب السيارة، وإن أتى صاحب سيارة فخمة فإن العامل سينتفض من عمله ويرحب فيه، وهذا بسبب التلوث الأخلاقي الذي أصابنا، فنحن لا نعاني من تلوث في الهواء فإن هذا قد حمانا الله من عواقبه بأن منحنا مناعات قوية، لكننا نعاني من تلوث خلقي نسأل الله أن يعافينا.
رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال ومن لا عنده مال فعنه الناس قد مالوا رأيت الناس منفضة إلى من عنده فضة ومن لا عنده فضة فعنه الناس منفضة رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهب ومن لا عنده ذهب فعنه الناس قد ذهبوا يجب أن نضع الدار الآخرة نصب أعيننا، ونضع مسألة مظالم العباد نصب أعيننا، ويجب على الإنسان أن يذكر نفسه بهول المطلع والوقوف بين يدي الله بين الآونة والأخرى، ويوم ينادي المنادي: تعال هذا فلان ابن فلان من كان له عنده مظلمة فليأتِ يأخذها منه، سواءًَ كانت هذه المظلمة غيبة أو نميمة أو غيرها، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا انتهت حسناته يؤخذ من سيئات المظلومين وتوضع على سيئات الظالم، وهذا هو المفلس الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، ثم يطرح على وجهه في النار والعياذ بالله رب العالمين.
فلهذا يجب أن ينتبه الإنسان فقد يتقبل الله منه في الدنيا عملاً عمله كالصلاة مثلاً فهو يصليها بإتقان وبخشوع وفي جماعة ويحاول ألا يسهو ويبكي فيتقبلها الله، وتكتب في ميزان حسناته، فيأتي شخص يأخذ أجرها بسبب أنه ظلمه، فإن المظلوم يبحث عن الحسنة الخالصة للظالم، وعندما يأخذ حسناتك المظلومون فإنك تصبح مفلساً، فالمسألة تريد مراجعة، فليس المقصود من هذه الحلقات مجرد الاستماع فقط وإنما العمل مطلوب.
نسأل الله أن يكون هذا العلم لنا لا علينا.