أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة الحادية والثلاثون في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة أو عن الموت وما بعده، وهي الحلقة العاشرة في الجنة، جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة، وزحزحنا وإياكم عن النار.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً.
اللهم لا تجعل يا ربنا بيننا شقياً ولا محروماً، لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا هديته، ولا مسافراً إلا رددته غانماً سالماً لأهله، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة وهداية، ولحظة الموت روحاً وراحة، وبعد الموت إكراماً ومغفرة ونعيماً.
أكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا.
اللهم من أراد بالمسلمين كيداً فاجعل اللهم كيده في نحره، أوقع الكافرين في الكافرين، وأخرجنا من بينهم سالمين، ولا تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم اطرد عن بيوتنا شياطين الإنس والجن، اللهم اطرد عن مجتمعاتنا شياطين الإنس والجن، ول أمورنا خيارنا، ولا تول أمورنا شرارنا، وأصلح يا رب أحوالنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، واختم لنا منك بخاتمة السعادة أجمعين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
نكرر دائماً ونقول: إن المسلم يتقلب في حالات أربع: إما في طاعة أو في معصية، وإما في نعمة أو في بلية، هذه هي الحالات الأربع التي يحياها كل واحد منا، وكل حالة تستوجب شيئاً، فالطاعة تستوجب الاستمرارية، فإذا فتح الله عليك باباً من أبواب الطاعة فلا تتكاسل، فإنك لا تعرف متى يرضى ربنا، وقد يرضى ربنا علينا في مجلس من مجالس العلم؛ لأن رضا الله عز وجل مخبأ في طاعته، وإن سخط الله عز وجل مخبأ في معصيته، فأنت عندما تكثر من الطاعات لا تعرف أي طاعة يقبلها رب العباد سبحانه، ولا تعرف متى ينظر الله إليك؛ لأن الذي سينظر الله إليه نظرة لن يعذبه يوم القيامة.
والمهم أن ينظر الله إليك وأنت تطيعه، فاحذر أن ينظر إليك وأنت تعصيه؛ لأنه إذا نظر إليك وأنت تعصيه فربما مقتك فطردك من رحمته، ولكن العبد المؤمن أواب، أي: رجاع إلى ربه كثير التوبة والاستغفار، كثير الرجوع إلى الله، وقال أهل العلم: لو نزل عذاب من السماء لما نجا إلا أهل المساجد.
ولقد حفظتم الحديث القدسي: (أكاد أهم عذاباً بأهل الأرض فأنظر إلى المتزاورين في، وإلى المتجالسين في، وإلى المتحابين في، وإلى عمار بيتي فأرفع عذابي عن أهل الأرض).
إذاً: رحمة الله عز وجل أكثر ما تنزل في بيوته؛ لأن أطهر وأفضل وأعظم وأقرب الأماكن إلى الله عز وجل هي بيوته، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق، وقد قلنا من قبل أنه جاء أعرابي عندما نزل جبريل فقال: (يا محمد! ما هي خير البقاع وشر البقاع؟ قال له: انتظر حتى أسأل من هو أعلم مني) وهذا من تواضع سيدنا رسول الله، ولنا فيه الأسوة الحسنة، ليس كل واحد منا يعرف كل شيء، وما أوتينا من العلم إلا قليلاً، والرجل الصالح قال لسيدنا موسى بعد رحلته الطويلة التي علمه فيها العلم الكثير وذلك عندما رأى العصفور واقفاً على حافة المركب أو السفينة ونقر في البحر نقرتين- فقال: يا موسى، ما علمي وعلمك وعلم الخلائق كلهم بالنسبة إلى علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من ذاك البحر، {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27]، {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف:109] أي: مداد حبر لكلمات الله عز وجل.
وقلنا: إن كلمات الله عز وجل نوعان: كلمات شرعية وكلمات كونية، فالكلمات الشرعية هي التكاليف والأوامر والنواهي، اعمل كذا لا تعمل كذا، صل وصم، ولا تشرب الخمر لا ترتكب كذا لا تفتر لا تظلم ونحوها وكلماته الكونية هي الكون وما فيه بكلمة (كن)، كوني سماء فكانت، كوني أرضاً فكانت، وقلنا: إن الكون عند الله عز وجل نوعان: كون مستور، وكون منشور، الكون المستور: هو كلام الله في كتابه، كل العالم موجود في كتاب الله عز وجل، كل أحوالك: حالة الإيمان، وحالة الكفر، وحالة الطغيان، وحالة العدل، وحالة النصر، وحالة الهزيمة، وحالة الغنى، وحالة الفقر، الطاعة والمعصية، الجنة والنار هذه كلها موجودة في كون الله المستور والمقروء وهو القرآن.
وكون الله المنشور الذي هو: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190]، الذين يتفكرون ويتذكرون، وماذا يقولون؟ يقولون: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] إذاً: الدعوة بالنجاة من عذاب النار في مسألة التفكر؛ لأن من تفكر تقرب، ومن تقرب هطلت عليه رحمة الله عز وجل.
إذاً: عندما سأل الأعرابي الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (انتظر حتى أسأل من هو أعلم مني، فنزل جبريل فقال: يا رسول الله! خير البقاع المساجد، وشرها الأسواق) لكن أنت عندما تدخل السوق تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أكسب فيها يميناً فاجرة، أو صفقة خاسرة، هذا دعاء السوق.
ومن دخل إلى السوق وقال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم كتب له عند الله مائة حسنة؛ لأن الذين في السوق مشتغلون بالبيع والشراء، فإذا ذكر الله شخص في الغافلين كان كالمقاتل بين الفارين، وكالشجرة الخضراء وسط الهشيم، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يدخل السوق ويخرج ولم يبع ولم يشتر ويقول: أنا أتيت فقط لأذكر الله في الغافلين! فلو دخل أحد اليوم السوق ليذكر الله عز وجل لربما ضحكوا عليه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] يا أخي! دعه يضحك قليلاً لا بأس، تريد حسنات بدون أن يضحك عليك أحد، لعل عملك كان ينقصه الإخلاص، فأكثر من الحسنات سواء ضحك الناس أو سخروا؛ لأنك استقمت على طريق الله أنت وزوجتك وبناتك وأهلك.
فإما أنت في طاعة تستوجب الزيادة والاستمرار، وعندما يفتح لك الله باب طاعة فلا تكسل؛ لأن للقلوب إقبالاً وإدباراً كما أخبر الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، فإذا أقبلت فتنفلوا وإذا أدبرت فأدوا الفريضة.
وكما قلنا إن الدول والأمم والعباد يهلكون بالطغيان، وهو الذي ينهي الأمم من الوجود وليس الكفر؛ ولذلك قال الله لموسى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] أما الكفر فهذه مسألة بينه وبين ربه، ولكن أن يطغى إنسان على إنسان فهذا هلاك.
قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص:76]، مع أنه لم يعمل لهم شيئاً، والبغي: هو عدم تنفيذ أحكام الله عز وجل.
فالإنسان الغني الذي لا يخرج زكاة ماله يكون باغياً؛ لأنه تكاسل أو قصر في تنفيذ أوامر الله سبحانه.
ذهب إليه رجل من عند سيدنا موسى فقال له: يا قارون أعطنا زكاة المال، قال: من الذي بعثك؟ قال له: موسى، قال له: أنا لا أعرف موسى ولا رب موسى، وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، وكأنه يقول: إنه يوجد عندي ما يحول المعادن الخفيفة إلى معادن نفيسة، وما يحول الزئبق إلى ذهب، كما تحصل الآن في المفاعلات النووية والأفران الذرية، وهي مكلفة جداً، فهو وصل إلى هذه الحقيقة وقال: أنا أحضرته من عرقي وذكائي يعني: أنا واصلت الليل بالنهار، وكنت أعمل خلال الأربع والعشرين ساعة، ولقد رأيت الويل، وبعد ذلك تسألوني حق الله؟ فيقال لمثل هذا: من الذي أعطاك الصحة حتى تعمل وتكد؟ أين حق الله عليك؟ وأصحاب الدنيا يهمهم المنظر الخارجي قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:79] وتخيل أن مفاتيح خزائن قارون يحملها الجماعة من الناس! قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76] العصبة: ما يقارب الأربعين أو الخمسين شخصاً يحملون مفاتيح الخزائن، إذاً: الخزائن كم حجمها؟ والذي بداخلها كم حجمه؟! فالذي يريد الدنيا يقول: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79].
ولذلك كان هناك قارئ من حفظة كتاب الله نام وهو مهموم، فأتى له شخص في الرؤيا وقال له: ما لك؟ قال له: أنا مهموم عندي ضائقة مالية، فقال له: الأمر سهل، نأخذ منك سورة البقرة ونعطيك مائة ألف؟ فرفض، قال له: نأخذ منك آل عمران ونعطيك مائة ألف؟! فرفض قال له: نأخذ منك النساء؟! نأخذ منك الواقعة؟! ثم قال له: اضرب إذاً مائة ألف في مائة وأربع عشر سورة كم عندك؟! فمن حفظ كتاب الله وظن أن أحداً أوتي خيراً منه فقد ازدرى نعمة الله عليه، اللهم ثبت علينا حفظ كتابك يا رب العالمين! واجعلنا من العاملين به آناء الليل وأطراف النهار، فالإنسان لا يستقل نعمة ربه عليه، فصاحب الدنيا يقول: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]، فأنت إذا نظرت إلى الناس بعين البصر وجدت غنياً وف