ثم قال: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف:39] وفي هذه الآية دليل على أن الإنسان عندما يتذكر نعمة الله يجب عليه أن يُحيل الحول والقوة والمشيئة إلى الله رب العالمين.
عندما يقول المسلم: لا حول الله! هذا حرام، ولكن يقول: لا حول إلا بالله، أو: لا حول ولا قوة إلا بالله إذاً: عندما تقول: لا حول الله يا ربي! كأنك نفيت الحول عن الله والعياذ بالله، فالمسلم يحتاط في أمور أربعة: اللفظات والنظرات والخطوات والخطرات؛ لأنه {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] فقد يقول الإنسان كلاماً لو أعاده إلى العقيدة وإلى مكانة الكتاب والسنة لرأى أن هذا شرك وكفر بالله والعياذ بالله.
فمثلاً هناك طابور واقف على باب سينما يقول: ما هذا؟ وأحدهم يقول: يا رجل! ليس رزق الأحمق على المجانين! مع أن رزق الأحمق والمجانين على الله؛ فهذه كلمة تجري على ألسنة العامة قد تصل بالإنسان إلى القدح في قدرة الله عز وجل، ولكن رزق الأحمق والمجانين على الله.
فالعاقل لا يستطع أن يرزق العاقل مثله، ولا العاقل يرزق الجاهل وإنما يدفع الله الناس بعضهم ببعض، ولذلك فإن رزق الأحمق والمجنون والعاقل على الله سبحانه وتعالى، ولذلك فأنت ترى المسكين عنده عشرة أولاد مثلاً، والغني عنده آلاف وملايين وعنده ولد واحد، أو ليس لديه من الأولاد شيء؛ فهنا يخطئ المسلم عندما يقول: يعطي القرط للذي ليس لديه أذن! فيكون المعنى: أن الله عندما يعطي القرط للذي بلا أذن كأنه لا يرى، وكأن الله غير عادل في قسمته! فهذا كفر بالله عز وجل، فمن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه دامت حسرته، ومن قل كلامه كثرت حسناته، ومن كثرت حسناته استمرت فرحته، اللهم اجعلنا من الفرحين في الآخرة يا رب العالمين! إذاً: أول الأخطاء أخطاء اللفظات، إذا لا يجوز أن يقال: لا حول الله! ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله، كذلك قول: أنا معتمد على الله وعليك! ولكن قل: أنا معتمد على الله ثم عليك؛ والآخر يقول: ربنا لنا في السماء وأنت في الأرض! وهذا حرام لكن قل: الله لنا في السماوات وفي الأرض، وفي الليل والنهار، وفي المنشط والمكره وفي العسر واليسر، وإنما ساقك الله إليّ لتكون سبباً في إجراء هذا الأمر على يديك.
ولا تقول: يا دكتور! لو لم تأتنا كان الولد سيموت، لأن هذا حرام، ولكن قل: فالله بعثك لنا كسبب ليجري الله الشفاء على يديك.
وهناك من الناس من هم مفاتيح للخير مغاليق للشر، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، وبعداً لعبد جُعل مغلاقاً للخير مفتاحاً للشر؛ اللهم اجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر يا رب العالمين! قيل للحسن البصري: نحن نعد عليك الكلام؟ يعني: ليس كحالتنا.
فقال: إني أعرض الكلمة على عقلي قبل أن أنطق بها، فإن رأيتها توضع لي في كتاب حسناتي قلتها، وإن رأيتها سوف توضع لي في كتاب سيئاتي فلا أقولها، فرأيت أن أغلب كلماتي سوف توضع في ميزان سيئاتي فأقللت من الكلام.
ولو أن كل إنسان كان كـ الحسن البصري يزن الكلمات لما سمعنا لعناً في الشوارع ولا سباً ولا قذفاً، وإنما نسمع ذكر الله، ومن يذكر بالله سبحانه وتعالى.
فلسانك سيؤدي بك إلى الهلاك: (هل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم) فجرح اللسان أنكى من جرح السنان وأصعب من جرح السكين أو السيف؛ لأن جرح السكين يداوى بالمضادات الحيوية والعلاج، لكن جرح اللسان كما قال الشاعر: جراحات السنان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسان رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ثوراً كبيراً يخرج من ثقب إبرة فقال: (ما هذا يا جبريل؟! قال: هذا الرجل من أمتك يقول الكلمة فلا تعود) وتجد شخصاً بعد ثلاثين سنة أو أربعين سنة يعاتب امرأته، يقول: لم أنس يوم قرأت عليك الفاتحة يا أم عباس! كان أبوك رحمه الله كذا وكذا وكذا، فالرجل قد مات، لكن الكلمة السيئة ترن في أذنه، ليس لأن حماه خبيث ولكن لأنه هو أخبث؛ لأنه لا يذكر عن حميه إلا السيئ من الكلام، ولذلك فإن سيدنا عمر قال: اللهم إني أعوذ بك من أربع: من زوجة تشيبني قبل المشيب، ومن ولد يكون علي سيداً، ومن مال أُحاسب عليه في قبري ويتمتع به ورثتي من بعدي، ومن جار المقامة -الدار- إن رأى سيئة أذاعها وإن رأى حسنة كتمها.
وهناك أناس كثيرون بنفس هذه الصفات، عندما يرى منك حسنة يكتمها.
وأنت إذا وضعت امرأتك على ميزان سترى حسناتها أكثر من سيئاتها، وهي كذلك عندما تضعك على الميزان ستجد أن حسناتك أكثر من سيئاتك، فيتعافى الناس ويصطلحون مع بعض ويتعودون على التعامل بالمعروف.
يحكى أنه كان يقول المتخاصمان للإمام الشافعي: يا إمام! اقض بيننا فيقول: ما قضيتكما؟ فيقول أحدهما: لي عند هذا مبلغ ويقول لي: أنظرني، فكان الشافعي يقول: أأعاملكما بالعدل أم أقضي بينكما بالفضل؟ يقولان: ما معنى العدل وما معنى الفضل؟ فيقول: العدل: أن يأخذ صاحب الحق حقه، والفضل: أن يعفو صاحب الحق عن حقه، ومن عفا عن حقه عفا الله عنه يوم الكرب.
ولذلك يروى أن رجلين وقفا بين يدي المولى عز وجل، وأحدهما عنده للآخر حق، فقال الله عز وجل لصاحب الحق: انظر خلفك، فيرى في الجنة قصوراً وقباباً من لؤلؤ وفضة وزبرجد وياقوت وما لا عين رأت، فيقول: يا رب! لأي نبي هذه، أم لأي صدّيق، أم لأي شهيد؟ فيقول الله: للذي يعطي الثمن.
قال: وما ثمنه؟ قال: أن تعفو عن صاحبك.
فيقول: يا رب! عفوت عنه.
فيقول الله: خذ بيد أخيك وادخلا إلى الجنة.
فالله هو العفو الغفور يعفو عن السيئات، وما عثرت بقدم ولا أصبت بشوكة إلا بذنب والله يعفو عن كثير، كان العربي إذا أصابه ألم يقول: حس حس، يعني آه آه، ولذلك يقول الله عن أهل الجنة: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:102].
فالنار تتغيظ كما قال الله: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك:8] يعني: تكاد تتقطع، يقال: هذا فلان يمشي ويكاد يتقطع من كثرة غيظه.