ويقال: كل ما يؤنسك في الدنيا فهو الذي يبعدك عن الجنة، وكل ما يزعجك فيها فهو الذي يقربك من الجنة، ما معنى هذا الكلام؟ معناه: أن الشيء الذي يؤنسك في الدنيا هو الذي يعطلك عن دخول الجنة، وما الذي يؤنسك بالدنيا؟ العيال، أمهم، والمصروف، والمال، والجاه، والدرجة العلمية، والنجاح، وكل هذا يؤنسك بالدنيا، ويبعدك عن الله، والذي يزعجك في الدنيا مثل المصائب، والابتلاءات، والاختبارات، والامتحانات، وكل امتحان ينزل عليك تخرج منه أنظف، والمؤمن مثل الذهب، فالذهب مشوب بعناصر رديئة، من قصدير ونحاس، ونحوهما، فلا تظن أن هذا الذهب الذي تلبسه النساء يخرج من الأرض هكذا مصفى، يخرج أربعة وعشرين جرام، أو واحداً وعشرين، أو عيار (18) أو مثل هذا الكلام، لا! فالذهب يخرج معه كثير من المعادن الخبيثة؛ لأن الذهب من المعادن النفيسة، وهناك معادن خبيثة، فالجواهرجي يدخله في النار، وهذا لازم لكي ينظف الذهب، والذهب كثافته ثقيلة فينزل تحت، والخبث من المعادن الأخرى يكون أعلى، ويسمونها خبثاً أو زبداً، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17].
فبعد دخول الذهب إلى النار ما هي الحصيلة؟ انتفت عنه جميع الشوائب، وحصلنا على الذهب الإبريز الخالص، وهكذا المؤمن فالمصائب تجعله مؤمناً صادقاً، ويدخل في مصيبة أخرى فيخرج مؤمناً عابداً، ويخرج من ابتلاء آخر قريباً من الله، إلى أن يصل إلى درجة الصديقية، اللهم احشرنا في زمرة الصالحين يا رب! إذاً: فهذه الاختبارات هي لتنقية الشوائب التي لديك، فلا تظن أبداً أن الله عز وجل يبتليك لأنه يكرهك، لا والله، وإنما يبتليك لأنه يريد أن يرفع درجتك عنده، أو أنه كتب لك درجة معينة قد قصر عملك عن الوصول إليها.
نأخذ مثلاً بسيطاً ولله المثل الأعلى: موظف كسول لكنه أمين، ورئيسه في العمل يحبه ويريد أن يرقيه، لكن هذا الموظف ليس في ملفه ما يثبت أنه ينفع للترقية، فماذا يفعل له؟ يحتال له بأي حيلة، فيقع على الموظف بالظلم، فيقوم الناس بالتعاطف معه، فإذا دخل في انتخابات اللجان النقابية فإن الناس كلهم سيرشحونه، وبعد أن كان عاملاً يصبح عضواً في مجلس الإدارة، فهذا الظلم الذي وقع عليه أو القرصة التي أخذها جعلته منتبهاً، وجعلت الناس كلها تحبه، ووصل إلى الدرجة التي يريدها له رئيسه.
ولله المثل الأعلى، كتب ربنا لك درجة معينة، وأنت لا تصلي بالليل ولا تصوم في النهار، ولا تكثر من مجالس العلم، فيزيد عليك البلاء، ويرزقك الصبر في نفس الوقت، فسبحان الحنان المنان، فهو الذي يبتلي وهو الذي يرزق الصبر، وكان سيدنا أبو بكر يقول: اللهم اشرح لي صدري ثم حملني من الهموم ما شئت.
وهذا سيدنا عروة بن الزبير رضي الله عنه التابعي الجليل لما أجمع الأطباء على قطع ساقه من ركبته وبترها، قال لهم: أليس هناك علاج آخر؟ قالوا: لا.
فقال: انتظروا إلى أن أدخل في الصلاة وأندمج فاقطعوها.
فهؤلاء عندما يكونون في الصلاة كيف تكون حالهم؟ نحن عندما نكون في الصلاة نكون في ستمائة موضوع، بل لا نحل المشكلة الصعبة إلا بواسطتها! ألا تذكر أبا حنيفة عندما جاءه سائل يشكوه توارد الأخطار والأفكار، فقال له: يا أبا حنيفة! بعت عقاراً لي ووضعت ثمنه في مكان في بيتي ونسيته، قال له أبو حنيفة: وماذا تريد مني، أنا عالم بالحلال والحرام فماذا تريد مني؟ والمشكلة أن الناس يستخدمون الدعاة مثلما استخدم هذا الرجل أبا حنيفة، فكل مشكلة تصب على رءوسهم، مع أن كل الذي نعرفه هو أن نقول: هذا حلال وهذا حرام.
فقال له: قم لله هذه الليلة، صل في آخر الليل وابتغ بذلك وجه الله، فذهب الرجل واتبع نصيحة أبي حنيفة، فقام فصلى؛ ففي أول ركعة تذكر مكان المال، فخرج من الصلاة! وللأسف كلنا هذا الرجل: صلى وصام لأمر كان يطلبه فلما قضى الأمر لا صلى ولا صاما فـ أبو حنيفة يراه وكأنه يقرأ الكتاب من عنوانه، فعرف الأمر على وجهه، قال له: وجدت مالك، قال له: وكيف عرفت؟ قال له: وجهك يقول هكذا، ما صنعت الليلة؟ قال: تذكرت مكان المال في أول ركعة، قال: ونمت بقية الليل؟ قال: نعم، قال: كنت أثق أن إبليس لن يدعك تعبد الله الليلة، هذا عمل الشيطان.
فالناس الذين يصبرون على الطاعة أعطاهم الله قدرة إلهية ونوراً إلهياً، فجعلهم قريبين منه سبحانه، اللهم صبرنا على طاعتك، وصبرنا عن معصيتك يا رب العالمين.
سنأخذ اليوم حلقة ثالثة في النار، وهو موضوع مرعب بعض الشيء، نسأل الله أن يوفقنا للأعمال الصالحة، التي تبعدنا عن النار، وأن يقربنا وإياكم إلى الجنة، وأن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
هذه الحلقة تخص أنواع العذاب في النار، ولمن يكون كل نوع من العذاب وارد في الكتاب والسنة، يعني: من الذي يدخل في هذا النوع، ومن الذي يدخل في النوع الآخر.