وفي رعب رهيب أتعسس الخطى لأدخل على أخطر حلقات الدار الآخرة، وهي الحديث عن قضية الخلق وما خلقنا من أجله، فمن عمل صالحاً دخل الجنة ومن عمل غير صالح دخل النار، والنهاية التي أنت مخلوق من أجلها إن كنت مؤمناً كان مكانك في الجنة، اللهم اجعل الجنة مآلنا ومكاننا ومنزلنا يا رب العالمين! وإن كان غير ذلك فالمآل والعياذ بالله شر مقيت، وكان يوماً عبوساً قمطريراً.
هذا اليوم العبوس يوم القيامة ينتهي بنهاية سيئة على الكافر والفاجر والظالم والمنحرف والزنديق والمرتد والمرابي، والذي لا يأتمر ولا ينتهي عندما أمر الله أو نهى عز وجل فيما أنزل في محكم كتابه وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم.
وإني لا أعرض عرضاً أكاديمياً لمسألة النار والجنة، فليست المسألة عرضاً علمياً سوف نشرحه، ولكننا نريد أن نعرف أهل النار لكي نبتعد عنهم، ونعرف أهل الجنة فنعمل بعملهم.
دخل سيدنا الحسن البصري رحمه الله المسجد، والطلاب ينتظرون الدرس، فرأى أول صف يبكي بكاءً مراً، فقال لهم: ما يبكيكم؟ -وهذا هو جيل التابعين الذين كان أساتذتهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم- قالوا: سبقنا الصحابة على خيل مضمرة، ونحن على حمر معقرة، أي: نركب حمراً هزيلة، ويقصدون أن أعمال الصحابة مثل فرس السباق من سرعته فسبقونا؛ لأننا نركب حمراً معقرة، يعني: فيها عقر، كالحمار الذي له ثلاث أرجل، أو كحمار رجله مكسورة، أو حمار لا يرى أمامه، أو حمار يضع أنفه في الأرض.
فلما وجد عندهم هذا الحنان والخوف والتواضع بشرهم وقال: ما دمتم على الطريق فسوف تصلون إن شاء الله.
أي: المهم أن تكونوا على الطريق، اللهم اجعلنا على الطريق يا رب العالمين! وسنقوم بعمل مقدمة إن شاء الله هذا اليوم من الكتاب والسنة في نصوص تجمع ما بين الجنة والنار، ثم بعد ذلك نفرد حلقات منفصلة للنار وحلقات منفصلة للجنة.
وسنتكلم عن الخوف من النار في الدنيا، وذلك بعد المقدمة عن النار والجنة، ثم نتكلم عن النار في حلقات منفصلة عن الخوف منها في الدنيا، أي: كيف نخاف من النار خوفاً عملياً؛ لأن الناس تخاف من النار نظرياً لا عملياً، ولكننا نريد أن نخاف خوفاً عملياً من النار، فمثلاً الذي يمتحن امتحاناً يخاف خوفاً عملياً فلذلك تجده يجتهد في المذاكرة.
فنحن نريد أن نخاف من النار عملياً؛ لأن جميع الناس في الدول المتخلفة أو الدول المتقدمة ما بين حاكم ومحكوم لا يخافون من النار عملياً أبداً، وإلا فلو خفنا من النار مخافة عملية لما ظلم المسلم مسلماً، وما ظلم حاكم محكوماً أبداً؛ لأنه خاف خوفاً عملياً من النار، ونحن نريد أن نخاف خوفاً عملياً؛ لأن الصحابة سبقونا بخوفهم من الله عز وجل.
دخل رجل على سيدنا عمر فقال له: يا عمر الخير جزيت الجنة، اكس بنياتي وأمهنه أقسمت بالله لتفعلنه فظن سيدنا عمر أن الرجل يمزح، فقال له: وإن لم أفعل؟ فقال له: إذاً فوالله لأذهبنه فقال له سيدنا عمر: وإذا ذهبت؟ فقال له: والله عني لتسألنه يوم تكون الأعطيات منه إما إلى نار وإما جنه فبكى عمر وانتحب حتى هدأه الصحابة فقال: أعطوه مائة دينار من مال الخطاب لحر ذلك اليوم لا لشعره.
أي: حتى لا يظن أننا أعطيناه للشعر الذي قاله.
ولما رأى نفسه وجهاً لوجه مع عجوز لديها يتامى وهي تغلي لهم ماءً في القدر، قال لها: ماذا تفعلين يا أمة الله؟! فتقول له: وما شأنك أنت؟ فيقول لها: أريد أن أسأل، فقالت له: لدي ستة يتامى، فقال لها: وما هذا الذي في القدر؟ فقالت: ماء أسكتهم به، والله بيننا وبين عمر.
وضعت ماء يغلي، وهم يسألونها: هل نضج الطعام؟ فتقول لهم: ليس بعد يا أولادي، حتى يناموا، فهي تسكتهم بهذا الماء، فخاف عمر خوفاً شديداً.
هذه الأيام لو جئت تقول لوزير: الله بيننا وبينك، سيهزأ بك ويقول: خذنا على جناحك، أو خذ لنا مكاناً بجانبك.
سبحان الله! نسأل الله السلامة، نسأل الله الهداية، اللهم اهد كل ظالم، وتب على كل عاص، واهد الضالين يا رب العالمين! إن الذي ذاق حلاوة القرب من الله لا يفرط فيها أبداً، والذي يخاف من الله يجد حلاوة في العبادة جميلة، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، فالمؤمن يخاف أولاً، وبعد ذلك يطمع، كما قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9].
فلما قالت المرأة: الله بيننا وبين عمر، قال عمر: وما يدري عمر بكم؟ فقالت له: عجباً لك، أيلي أمرنا ويتركنا! فعاد عمر وأخذ عبد الرحمن بن عوف ومعه الدقيق والسمن والعسل، ويقول لـ عبد الرحمن: احمل علي، فيقول: أحمل عليك أم عنك يا أمير المؤمنين! فيقول له: ثكلتك أمك احمل علي، أتحمل وزري يوم القيامة؟ فيذهب سيدنا عمر بنفسه إلى المرأة والليلة شديدة البرد في صحراء، فيطبخ وينفخ والدخان يدخل في لحيته وعينيه، وبعد ما استوى الأكل قال للعجوز: أنا أغرف وأنت تنفخين الأكل لكي يبرد، وبعدما غرف لهم قال لها: تعالي غداً عند أمير المؤمنين وسوف أكلمه في أمرك، فترد عليه وتقول: والله إنك لأولى بالأمر من عمر.
فذهب واختبأ وراء صخرة، وعبد الرحمن بن عوف يقول له: يا أمير المؤمنين! إنها ليلة شديدة البرد فقال: لن أدع مكاني حتى أراهم يضحكون كما رأيتهم يبكون.
إحساس بالمسئولية، لا تطبيل وتزمير! فكلما تكبر مسئوليتك تكبر علتك وحسابك، يقول صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالحاكم العادل يوم القيامة على الصراط فينتفض الجسر به انتفاضة، ويطير كل عضو من أعضائه في مكان لا يعيدها إليه إلا عدله).
وذهبت المرأة العجوز في اليوم الثاني وهي لم تر أحداً في الليل، أو كانت تغض بصرها عن الذي جاء إليها في الليل، فدخلت على أمير المؤمنين عمر، فقال لها: يا أمة الله! وصلتني شكايتك من الرجل الذي اشتكيت إليه ليلة البارحة وأعطاك الأكل، فبكم نشتري مظلمتك؟ فقالت له: بمائتي دينار، فقال لها: بل أربعمائة دينار - من ماله الخاص- سبحان الله! فكتب في رسالة: هذا ما اصطلح عليه عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع أمة الله أم اليتامى واشترى منها مظلمتها بأربعمائة دينار، وشهد على هذا عبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان، ووقعوا وقال: ضعوا هذه في كفني حتى إذا جئت يوم القيامة قلت: برئت ذمتي بهذه الرسالة.
قال نبينا الحبيب صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما) أي: رآهما في النار يعذبان ولكنه لم يرهما في المجتمع الذي كان فيه.
قال صلى الله عليه وسلم: (رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون الناس) هذا الصنف من أهل النار.
ولا بد أن نعرف أن الكتاب والسنة لم يتركا شيئاً نجتهد فيه، فالإسلام وضع إطاراً للحياة بين الحاكم والمحكوم، وبين الرئيس والمرءوس لكي يعيش الجميع في سلام.
فهذا الصنف من أهل النار هم جماعة يمسكون سياطاً -جمع سوط- والمصيبة أنه اشتراها من مالك أنت، فهو يأخذ مالك ويشتري به سياطاً ويضربك بها، آمنت بالله رب العالمين، لا إله إلا الله! قال: (ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات شعورهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة، ولا يشممن ريحها، وإن ريحها ليشم من مسيرة كذا وكذا) فالرسول صلى الله عليه وسلم لم ير في أيامه هذين النوعين: لا رجال الأمن المركزي، ولا النساء الموظفات اللاتي يمشين كل يوم عاريات في الطريق، ويقول الناس لك: هذه لابسة.
نسأل الله الهداية، ونسأل الله أن يعيد الغيرة إلى قلوب المسلمين، وأن يعيد الرحمة إلى قلوب المسلمين، وأن يعيد الود إلى المجتمع المسلم، وأن يعيد الأمن والأمان إلى البيوت المسلمة؛ إنك يا مولانا على ما تشاء قدير.
الموضوع الأول: الخوف من النار، وسوف نتكلم عليها.
الموضوع الثاني: طبقات النار ودركاتها -والعياذ بالله- ومن في الطبقة الأولى والثانية والثالثة حتى الدرك الأسفل والعياذ بالله، وسوف نوضح حتى ننتبه إذا لم نكن نعرف.
الموضوع الثالث: صفة قعر جهنم، شكله، ومن فيه، وشكل العذاب فيه.
الموضوع الرابع: أبوابها وسرادقاتها.
الموضوع الخامس: ظلمتها وسوادها.
الموضوع السادس: شدة حرها وزمهريرها.
الموضوع السابع: تغيظها وزفيرها.
الموضوع الثامن: دخانها وشررها ولهيبها، الشرارة الواحدة مثل الجبل.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن أهل النار وجدوا ناراً من نار الدنيا، لاستراحوا فيها وناموا).
الموضوع التاسع: جبالها ووديانها.
الموضوع العاشر: سلاسلها وأغلالها.
الموضوع الحادي عشر: حجارتها.
الموضوع الثاني عشر: حياتها وعقاربها والعياذ بالله.
الموضوع الثالث عشر: طعام أهل النار وكسوتهم.
الموضوع الرابع عشر: قبح صور أهلها.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (لو خرج جهنمي على أهل الدنيا لمات أهل الدنيا جميعاً من نتن رائحته وقبح منظره).
الموضوع الخامس عشر: أنواع عذاب أهل النار، وهي تسعة وسبعون نوعاً من العذاب سوف نفصلها من القرآن ومن السنة، لأن الموضوع ليس فيه اجتهاد.
الموضوع السادس عشر: بكاء أهل النار، ويقول صلى الله عليه وسلم: (حين تنتهي دموع أهل النار يبكون بدل الدمع دماً حتى لو أجريت سفن في دموعهم لجرت).
الموضوع السابع عشر: من هم أكثر أهل النار.
الموضوع الثامن عشر: كيف يجوعون وكيف يعطشون.
ثم بعد ذلك الحديث عن جهنم بالذات، لأن فيها عصاة الموحدين.
كل هذه المواضيع سنتكلم عليها بالتفصيل إن شاء الله.
فالحديث عن النار حديث ثقيل جداً على القلب، لكن هذه حقائق العلم التي يجب أن يكون الإنسان أمي