هل هو ميزان واحد أو موازين؟ أم أن كل عمل له ميزان؟ هذه مسألة غيبية، لكن العلماء على آراء، فهناك رأي يقول: إن الميزان واحد للجميع، ويقال: إن داود عليه السلام سأل ربه: يا رب! بكم كفة الميزان، قال: يا داود! إن كفة الميزان تسع أطباق السماوات والأرض، أي: الكفة الواحدة تحمل السموات والأرض وما فيها، فخاف داود عليه السلام، قال: يا رب! ومن أين آتي بحسنات كي أملأها؟ قال: يا داود! إذا رضيت على عبدي ملأت له كفة حسناته ولو بشق تمرة يتصدق بها مخلصاً من أجلي.
ولذلك من رؤيا الحبيب صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت أعناقاً من النار تخرج تريد أن تلقم أناساً، فجاءت بعضهم زكاة أموالهم فمنعت أعناق النار أن تلتقطهم)، وعندما تدنو الشمس من رءوس العباد يرى رجلاً من أمته وقد استظل بظل صدقته.
وقد كانت عائشة تعطر الدرهم الذي تخرجه لله، فقيل لها: ما هذا يا أم المؤمنين؟! قالت: أنا أعلم أنه لا يقع في كف الفقير وإنما يقع في كف الله عز وجل، والفقير يدعو لها جزاك الله خيراً يا أم المؤمنين! فتقول: بل جزاك أنت خيراً أنك حملت زادنا إلى الآخرة! ولذلك المسلم يعطي مما أعطاه الله، فسيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه مر على خيمة ومعه طلابه، فشربوا من الخيمة، فقال: يا غلام! ما معك؟ قال: معي أربعون ألف درهم، قال: ادفعها للمرأة، فقال الغلام: كيف ندفع لها أربعين ألف على شربة ماء؟! قال: لقد أعطتنا أفضل ما عندها، ونحن نعطيها أفضل ما عندنا.
قال: يا إمام! إنها لا تعرفك، قال: ولكني أعرف نفسي.
وهذا حاتم الأصم له تسع بنات، قال لهن: أنا ذاهب للحج فبكت زوجته وبناته وقلن: تتركنا لمن؟ وماذا نصنع؟ وكانت ابنته الوسطى تحفظ القرآن فقالت: دعوه فإنه لن يدعنا لميت ولا لأعمى، ولكن يدعنا لحي سميع بصير، دعوه يحج، فسافر حاتم الأصم وجاء عليهن الليل ولم يجدن عشاءً، فجعلن يلمن البنت الوسطى ويؤنبنها، فقالت: والله لقد تركنا لحي سميع بصير، ولا زالت مصممة، ولم تنحن للعاصفة التي تهب عليها، فمر من الباب مار فقال: أعندكم ماء يا أهل البيت؟! قلن: نعم، فأعطوه كأساً من ماء وشرب، ووجد أن طعمه لذيذ وأن الله قد حلاه له، فقال: بيت من هذا؟ قالوا له: بيت حاتم الأصم، وكان السائل هو أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين، فأخذ صرة من ذهب ورماها إلى عتبة الدار وقال لمن معه: من أحب أمير المؤمنين منكم فليفعل مثل ما فعلت، ورمى كل واحد بصرة فأراد أولاد حاتم الأصم أن يقفلوا الباب فلم يستطيعوا من صرر الذهب، فنظرت البنت إلى أمها وأخواتها وقالت: نظرة من مخلوق أغنتنا فما بالكم لو نظر إلينا الخالق؟! فالخالق حين ينظر إلى العبد نظرة من فيض جوده تملأ الأرض رياً، ونظرة من عين رضاه تجعل الكافر ولياً.
اللهم اهدنا بفضل جودك يا أكرم الأكرمين! فالميزان يوم القيامة إما هو ميزان واحد توزن به كل الأعمال وكل الخلائق، أو هي موازين متعددة، وهذا رأي آخر، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] أو أنه في اللغة العربية يطلق الجمع على المفرد، كقوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123] مع أنه رسول واحد وهو هود عليه السلام.
فهذا رأي يقول: يطلق الجمع على المفرد وهذه من البلاغة العربية المعروفة، أو أنه عدة موازين، فنحن لا يهمنا إن كان ميزاناً واحداً أو عدة موازين، لكن يهمنا ما هو العمل الذي يثقل الميزان؟