إن الحديث عن الدار الآخرة، ليس مجرد عرض أكاديمي علمي بحت عما يحدث بعد الموت، وإنما نريد أن نبلغ ما بلغه الصادق الأمين سيدنا صلى الله عليه وسلم، ونريد من تبليغنا لكلام الحبيب عليه الصلاة والسلام تحريكاً للمشاعر الإسلامية نحو التوبة والاستقامة، ونحو إقامة مجتمع قائم على الكتاب والسنة، بعيد عما حرم الله، بعيد عن الشبهات، حتى وإن سار الناس جميعاً في طريق الانحراف والزور والبهتان، فإن المسلم مرتبط بما قاله الله وقاله الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي).
ونحن ضعنا لما ألقينا كتاب الله وسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم خلف ظهورنا، فأنت ترى الحالة التي وصل إليها المسلمون، أو المتمسلمون ومدعو الإيمان والالتزام، وهم للأسف في الاستماع خبراء، يعني: أستطيع أن أعطي شهادة لكل واحد منكم بأنه خبير استماع، لكن في التطبيق لا أرى خبيراً؛ لأن كثيراً من المسلمين يفصلون ما بين الاستماع والتطبيق، وقد كان الصحابي يسمع الآية فيبادر إلى امتثال قول الله عز وجل.
هذا سيدنا أنس لما بعثه الرسول وقال له: (يا أنس! بلغ المسلمين أن الخمر قد حرمها الله) فذهب أنس، والصحابة -كما يحكون عن أنفسهم- جلوس يشربون الخمر، والصحابي الوحيد الذي لم يشرب الخمر منذ أن ولد إلى أن حرمها الله هو أبو بكر الصديق، وهذه تربية ربانية، وعصمة إلهية، اللهم اعصمنا من كل سوء يا رب.
لو أن أحداً ابتلي بمصيبة وهو ممن يحضر دروس العلم، فهل سيصبر صبراً صادقاً؟ صبر من وضع الله يده على قلبه، فنزلت البلية والمصيبة على قلبه برداً وسلاماً، لكن إذا نزلت عليك المصيبة وادعيت الصبر وتظاهرت به، فحينها يرفع الله يده، ويكلك إلى نفسك، ويظهر ذلك في فلتات لسانك: بس يعني لو يعني الموضوع يعني، آه، لكن عندما يضع سبحانه وتعالى يده على قلبك فالأمر هين، اللهم ضع يدك على قلوبنا يا رب العالمين.
ولذلك السيدة يوكابد أم سيدنا موسى عليها السلام، لما قال لها ربنا سبحانه وتعالى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} [طه:39] تأمل كلمة (اقذفيه)، ثم بعد ذلك خذي التابوت واقذفيه في اليم، والقذف: هو رميٌ بشدة، فقال الله لها: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} [طه:39]، فلما رمته خافت؛ لأن لها قلب أم، {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص:10] أي: هي على وشك أن تقول: ابني ضيعته قبل اثنين وسبعين ساعة، أو وضعته بيدي في التابوت أو في الصندوق ثم رميته، ولو قتلوه بأيديهم لكان أخف من أن أقتله بيدي.
فقال تعالى: {إِنْ كَادَتْ} [القصص:10] أي: أوشكت، {لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10].
أي: أن الذي ليس مربوطاً على قلبه ليس مؤمناً، لكن حين تجزع في المصيبة فاعرف أن إيمانك مهزوز، وكذا حين تجزع لموت حبيبك من أب أو أخ أو ابن أو امرأة، أو أي عزيز عليك، فأول ما تفزع فاعرف أن إيمانك مهزوز.
وصحيح أنه لا قياس بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسيدنا عمر أنكر، وسيدنا عثمان حصل له ذهول، وقعد علي على الأرض، فما تماسك من الصحابة إلا أبو بكر، وهو من أقرب الناس إلى قلب حبيب الله صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الناس إليه عليه الصلاة والسلام.
إذاً: من سيكون أشد الناس حزناً على موت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ النتيجة المنطقية: أن يكون أشد الناس جزعاً هو الصديق وبما أنه كان أشد الصحابة ثباتاً؛ فإذاً هو أشدهم إيماناً، فإيمانه لو وضع في كفة وإيمان الأمة كلها إلى أن تقوم الساعة في كفة أخرى، لرجحت كفة إيمان أبي بكر.
إذاً: فالذي ليس مربوطاً على قلبه ليس مؤمناً، قال تعالى: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10].
فعلامات الساعة صغرى وكبرى، إذا ظهرت علامات الساعة الصغرى فإن باب التوبة يبقى مفتوحاً، أما إذا ظهرت علامات الساعة الكبرى فإن باب التوبة سوف يغلق، والعياذ بالله رب العالمين، فلا تنفع أحداً توبة، ولا ينفع رجوع العاصي، فالذي صلى صلى، والذي زكى زكى، والذي عمل خيراً عمل خيراً، والذي ظلم ظلم، فيأتي ليرجع الحقوق فلا يستطيع، حتى أننا نرى من علامات الساعة الكبرى أن الناس انقسموا إلى قسمين: مجموعة منهم على وجهه هالة من نور تشع، اللهم اجعلنا منهم يا رب.
والمجموعة الأخرى على وجوههم غبرة.
ويختفي هناك التعامل بالأسماء يعني: لا يوجد محمود أو أحمد أو عبد الكريم أو عبد الحميد أو إبراهيم، وإنما الذي على وجهه هالة نور ينادى: يا مؤمن! والذي على وجهه غبرة ينادى: يا كافر!