من الْأمة بِمُقْتَضى سنَن الغريزة، فَإِن كلا من حب التَّجْدِيد وَحب الْمُحَافظَة على الْقَدِيم غريزي فِي الْبشر، فَيظْهر هَذَا فِي أنَاس وَذَاكَ فِي آخَرين بِتَقْدِير الْعَلِيم الْحَكِيم، وَإِلَّا لكانوا على غرار وَاحِد لَا يتَغَيَّر كالنمل والنحل، أَو لكانوا كل يَوْم فِي جَدِيد لَا يثبتون عَلَيْهِ وَلَا يكون لجيل مِنْهُم شبه بجيل آخر.
فَمن يظنّ أَنه يُمكنهُ أَن يُمِيت أمة من الْأُمَم بِإِبْطَال مقوماتها من العقائد والغرائز والأخلاق ومشخصاتها من الْآدَاب والعادات ثمَّ يبعثها خلقا جَدِيدا فِي جيل وَاحِد بتغيير فِي قوانينها وشكل حكومتها، وإقناعها بذلك بالخطب وَالشعر والجرائد - فَهُوَ مغرور وَالْحمل عَلَيْهِ بِالْقُوَّةِ الْقَاهِرَة لَا يَأْتِي إِلَّا بحكومة شخصية قاهرة.
نعم إِن التَّغْيِير مُمكن وواقع، وَطَرِيقه مَعْرُوف، وَهُوَ مَا أرشدنا الله تَعَالَى إِلَيْهِ بقوله {إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} وتغيير مَا بالأنفس إِنَّمَا يكون منظما بتعميم التربية والتعليم، وَقد حقق عُلَمَاء الِاجْتِمَاع أَن التَّأْثِير فِي تَغْيِير حَال الشّعب لَا يتم إِلَّا فِي ثَلَاثَة أجيال. جيل التَّقْلِيد والمحاكاة، وجيل الْخُصُومَة وجيل الِاسْتِقْلَال، وبتمامه يتم تكوين الملكة. وَمثل هَذَا فِي الشعوب كَمثل التَّعْلِيم الابتدائي والثانوي والعالي للأفراد وَقد يشذ بعض الشعوب فِي بعض الملكات كَمَا يشذ بعض الْأَفْرَاد بذكاء نَادِر فَيبلغ من إحكامها فِي بدايته مَا يعجز عَن مثله البليد فِي نهايته. وَقد حقق الفيلسوف الاجتماعي (غوستاف لوبون) الْمَشْهُور فِي كِتَابه (تطور الْأُمَم) أَن ملَكة الْفُنُون لم تستحكم لأمة من أُمَم الأَرْض فِي أقل من الثَّلَاثَة أجيال المقررة إِلَّا للْعَرَب، فهم وحدهم الَّذين تربت هَذِه الملكة فيهم، فَصَارَ لَهُم مَذْهَب خَاص فِيهَا مُنْذُ الجيل الأول من مدنيتهم الإسلامية، فَإِذن لابد من جعل كل تَغْيِير يُرَاد فِي الْأمة إِلَى لجان من أهل الِاخْتِصَاص فِيهِ، تدرسه وتمحصه وتقرر فِيهِ مَا فِيهِ مصلحتها وموافقة شريعتها.
وَلَيْسَ بَيَان هذامن مقصدنا هُنَا، وَلكنه استطراد غرضنا مِنْهُ رد مَسْأَلَة النِّسَاء وأمثالها إِلَى أصل علمي مَعْقُول، فَإِن الفوضى فِيهَا ضاربة أطنابها فِي بِلَادنَا كالبلاد التركية، فَمَا يرَاهُ بعض النَّاس ضارا قطعا يرَاهُ آخَرُونَ هُوَ النافع الَّذِي لابد مِنْهُ، ومقلدة الإفرنج فِيهِ كالجامدين على الْقَدِيم لَيْسُوا على هدى وَلَا بَصِيرَة، فَإِن أَعقل حكماء الإفرنج وأكبر عُلَمَائهمْ غير راضين عَن حَال النِّسَاء عِنْدهم، وَقد حكى لنا