مصطفى كَمَال باشا ذكي فصيح، وَلكنه غير أصولي وَلَا فَقِيه، وَهُوَ يُفْتِي فِي أَمْثَال هَذِه الْمسَائِل الدِّينِيَّة، بِمَا أُوتِيَ من الجرأة العسكرية، والإدلال بزعامته السياسية، فَيقبل مِنْهُ الْعَوام، وَلَا يتجرأ عَلَيْهِ الْفُقَهَاء. وَلَكِن سير حكومته على هَذِه السَّبِيل - وَهِي شعبية إسلامية - لَا يُمكن أَن يَدُوم بتأثير سلطة شخصية، فَلَا بُد لَهَا من إِحْدَى ثَلَاث: إِمَّا اتِّبَاع فُقَهَاء الْحَنَفِيَّة بالجري على الرَّاجِح فِي كتب الْفَتْوَى - وَهَذَا مَالا يرضاه أحد من طلاب المدنية العصرية الغلاة وَلَا المعتدلين - وَإِمَّا أَن يرفضوا كَون الْحُكُومَة إسلامية بِحجَّة الْفَصْل بَين الدّين والسلطة، وَهَذَا مَا يتمناه ملاحدة المتفرنجين وَلَكِن لَا سَبِيل إِلَيْهِ، فَإِن سَواد الْأمة الْأَعْظَم مُسلمُونَ، وهم أَصْحَاب السلطة وسيكون لَهُم الرَّأْي الْغَالِب فِي الجمعية الوطنية. فَلم يبْق إِلَّا الثَّالِثَة وَهِي سَبِيل الْعلم الاستقلالي الاجتهادي الَّذِي نوهنا بِهِ فَهُوَ الَّذِي يثبت لهَذِهِ الْحُكُومَة وللعالم كُله أَن الشَّرِيعَة الإسلامية أوسع الشَّرَائِع وأكملها، وَأَن من أُصُولهَا حظر كل مَا ثَبت ضَرَره، وَإِبَاحَة مَا ثَبت نَفعه، وَإِيجَاب مَالا بُد مِنْهُ، وَأَن الْمحرم فِيهَا بِالنَّصِّ يُبَاح للضَّرُورَة، وَالْمحرم لسد ذَرِيعَة الْفساد يُبَاح للمصحلة الراجحة.
أولى مَا يذكر هُنَا مَا ألممنا بِهِ آنِفا، فَأَما التَّصْوِير فَهُوَ قد حرم لعِلَّة مَعْرُوفَة وَهِي سد ذَرِيعَة الوثنية، ومضاهاة خلق الله، فَإِذا احْتِيجَ إِلَيْهِ لمصْلحَة راجحة فِي الْعلم كتصوير الْأَبدَان المساعد على إتقان عُلُوم الطِّبّ والجراحة، أَو تَحْقِيق المسميات اللُّغَوِيَّة من الطير وَالْحَيَوَان لمُجَرّد ضبط اللُّغَة وَلما يَتَرَتَّب عَلَيْهَا من الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة كمعرفة مَا يُؤْكَل وَمَا لَا يُؤْكَل عِنْد من يحرمُونَ أكل السبَاع المفترسة مِنْهَا أَو الْمسَائِل العلمية الْكَثِيرَة والمصالح العسكرية أَو الإدارية، كتصوير الجواسيس والجناة - فَكل ذَلِك يُبَاح شرعا حَيْثُ لَا شُبْهَة عبَادَة، وَلَا قصد إِلَى مضاهاة خلق الله، وَقد بَينا ذَلِك بالتفصيل فِي فتاوي الْمنَار، وَهُوَ مِمَّا لمحه مصطفى كَمَال باشا لمحا، فَأفْتى بِالْجَوَازِ الْمُطلق طردا وعكسا، وَهُوَ مَالا يتم مُطلقًا، واستدلاله على جَوَاز نصب