لَا يُمكن للْمُسلمين أَن يجمعوا بَين هِدَايَة الْإِسْلَام وحضارته من حَيْثُ هُوَ دين سيادة وسلطان إِلَّا بِالِاجْتِهَادِ فِي شَرعه الْوَاسِع المرن، فَترك الْجِهَاد هُوَ الَّذِي رد بَعضهم إِلَى البداوة الَّتِي قضى عَلَيْهَا أَو إِلَى مَا يقرب مِنْهَا، وطوح ببعضهم إِلَى التفرنج والإحاد وَالسَّعْي إِلَى الْبعد عَن الدّين.
مِثَال ذَلِك أَن التّرْك نصبوا خَليفَة متقنا لصاعتي التَّصْوِير والموسيقى، وللعزف بالآلات الوترية، وكل من هذَيْن العملين محرم ومسقط للعدالة فِي الْمذَاهب الْأَرْبَعَة، وَمن أَشدّهَا فِيهِ مَذْهَب الْحَنَفِيَّة الَّذِي ينتمي إِلَيْهِ الشّعب التركي، وَقد ردَّتْ المحكمة الشَّرْعِيَّة بِمصْر شَهَادَة أستاذ موسيقى (موسيقار) من عهد قريب. وَلَكِن لكل من الْمَسْأَلَتَيْنِ تخريجاً فِي الِاجْتِهَاد كَمَا سنشير إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَحْث. وَقد سُئِلَ الْغَازِي مصطفى كَمَال باشا فِي أثْنَاء سياحته الْأَخِيرَة فِي الأناضول عَن صنع التمائيل ونصبها فِي الْبِلَاد، أَلَيْسَ محرما شرعا؟ - وَقد روى أَنهم سينصبون لَهُ تمثالا فِي أنقرة - فَأفْتى بِأَنَّهُ غير محرم الْيَوْم كَمَا كَانَ محرما فِي أول الْإِسْلَام وَقرب الْعَهْد بالوثنية، وَجزم بِأَنَّهُ لَا بُد للْأمة التركية من الِاشْتِغَال بنحت التماثيل، لِأَنَّهُ من فنون حضارة الْعَصْر الضرورية، وَاسْتشْهدَ أَو اسْتدلَّ على حلّه بِمَا رأى فِي مصر من التماثيل.
وَقد أفتى لنَفسِهِ وللحكومة فِي مَسْأَلَة اخْتِلَاط النِّسَاء بِالرِّجَالِ، ومشاركتهن لَهُم فِي الْأَعْمَال، بل سنّ فِيهَا سنة جَدِيدَة إِذْ عقد لَهُ فِي أزمير على فتاة متفرنجة حضرت مجْلِس العقد بِنَفسِهَا، ووقفت تجاهه فِيهِ وسألها القَاضِي عَن رِضَاهَا بِهِ بعلاً
فأجابت، وسجل زواجهما وأصبحت بعد ذَلِك تُسَافِر مَعَه بزِي الفرسان، وتقابل مَعَه من يلقى من الرِّجَال، وَقد صرح فِي مَسْأَلَة النِّسَاء وَمَا سيكن عَلَيْهِ فِي الْأمة التركية الجديدة بِمَا لَا يرضاه رجال الدّين والمتدينون، وَلَا يزَال يسْأَل عَن المشكلات الْمُتَعَلّقَة بشئون الْأمة الدِّينِيَّة فيفتى برايه، فيخطئ ويصيب. ولابد فِي أَمْثَال هَذِه الْمسَائِل من الْموقف الْوسط بَين التقحم الْجَدِيد والجمود التليد، وَإِنَّمَا يكون ذَلِك بِالِاجْتِهَادِ دون التَّقْلِيد.