لقد أَتَى على النَّاس حِين من الدَّهْر وهم يظنون أَن المدنية الإسلامية قد مَاتَت وبليت، فَلَا رَجَاء فِي بَعْضهَا، وَأَن المدنية الإفرنجية قد كسبت صفة الخلود فَلَا مطمع فِي مَوتهَا، ثمَّ اسْتَدَارَ الزَّمَان وَظهر خطأ الحسبان، وَكثر فِي حكماء أوروبة وعلمائه من يرتقب اقتراب أجل مدنيتها، بِمَا يفتك بهَا من أوبئة الأفكار المادية، وَالروح الحربية، والمطامع الأشعبية، والإسراف فِي الشَّهَوَات الحيوانية، وَقد كَانَ من أساطين أهل هَذَا الرَّأْي شيخ فلاسفة الْعَصْر هربرت سبنسر الإنكليزي مؤسس علم الِاجْتِمَاع، وَكثر أَهله بعد الْحَرْب الْكُبْرَى، لما ترَتّب عَلَيْهَا من الْمَفَاسِد الَّتِي لَا تحصى، فقد أرثت الأحقاد والأضغان بَين الشعوب الأوروبية، وضاعفت الْمَفَاسِد والمشاكل الْمَالِيَّة والسياسية، وَلكنهَا قد هزت الْعَالم الإسلامي والشرق كُله هزة عنيفة، وأحدثت فِي شعوبه توارث لم تكن مألوفة، فسنحت لَهُ فرْصَة للْعَمَل، هِيَ منَاط الرَّجَاء وَقُوَّة الأمل. .
وَإِن أعظم مظَاهر هَذِه الفرصة نهضة الشّعب التركي من كبوته الَّتِي قَضَت على السلطنة العثمانية، وتوثيقه عرى الإخاء بَين الدولتين الإيرانية والأفغانية، وبثه دَعْوَة الِاعْتِصَام مَعَ سَائِر الشعوب الإسلامية الأعجمية، ونجاحه فِي إِلْغَاء الامتيازات الْأَجْنَبِيَّة، وَالنَّقْص من سَائِر الْقُيُود والأغلال السياسية والمالية، فرجاؤنا فِيهِ أَن يشد أواصر الإخاء مَعَ الْأمة الْعَرَبيَّة، ويتعاون مَعهَا على إحْيَاء المدنية الإسلامية، بتجديد حُكُومَة الْخلَافَة على الْقَوَاعِد المقررة فِي الْكتب الكلامية والفقهية، وَألا يرضى بِمَا دون ذَلِك من الْمظَاهر الدُّنْيَوِيَّة، وَلَا يغتر بتحبيذ عوام الْمُسلمين لما قَرَّرَهُ فِي أَمر الْخلَافَة الروحية، فَمَا أضاع على الْمُسلمين دنياهم وَدينهمْ، إِلَّا تحبيذ دهمائهم لكل مَا تَفْعَلهُ حكوماتهم ودولهم، ناهيك بشعور الْمُسلمين، الَّذين يئطون من أثقال حكم المستعمرين، إِنَّه شُعُور شرِيف، وَإِنَّمَا يعوزه الرَّأْي الحصيف، فقد كَانَ السوَاد الْأَعْظَم من هَؤُلَاءِ الملايين، يَرْمِي من يُخَالف أهواء السُّلْطَان عبد الحميد بالخيانة أَو المروق من الدّين، وَهُوَ السُّلْطَان الَّذِي أقنع جُمْهُور ساسة التّرْك بِإِسْقَاط سلطة السلاطين، الَّذِي تحمده الْيَوْم هَذِه الملايين، وَمَا لَهُم بِهَذَا وَلَا ذَاك من علم وَلَا سُلْطَان مُبين. .
أَيهَا الشّعب التركي الْحَيّ: إِن الْإِسْلَام أعظم قُوَّة معنوية فِي الأَرْض وَإنَّهُ هُوَ الَّذِي يُمكن أَن يحيي مَدَنِيَّة الشرق وينقذ مَدَنِيَّة الغرب، فَإِن المدنية لَا تبقى إِلَّا