وَجعل الْخلَافَة تراثا ينْتَقل من الْمَالِك إِلَى وَلَده أَو غَيره من عصبته، وشغل النَّاس عَن سوء هَاتين البدعتين سُكُون الْفِتْنَة الَّتِي أثارها السبئيون وَالْمَجُوس وافترصها الأمويون، وَمَا تلاه من اجْتِمَاع الْكَلِمَة وحقن الدِّمَاء فِي الدَّاخِل، وَالْعود إِلَى الْفتُوح وَنشر هِدَايَة الْإِسْلَام وسيادته فِي الْخَارِج، وَذَلِكَ أَن تَأْثِير الْفساد الَّذِي يطْرَأ على الصّلاح الْعَظِيم لَا يظْهر إِلَّا بتدرج بطئ. .
خُدع كَثِيرُونَ بمظهر ذَلِك الْملك حَتَّى حكيمنا الاجتماعي (ابْن خلدون) الَّذِي اغْترَّ باهتدائه إِلَى سنة قيام الْملك وَسَائِر الْأُمُور البشرية الْعَامَّة بالعصبية فَأدْخل فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، بل مَا هُوَ مضاد لَهَا، كدعوة الرُّسُل (عَلَيْهِم السَّلَام) فَجعل مدارها على منعتهم فِي اقوامهم وَقُوَّة عصبية عَشَائِرهمْ. . مُعْتَمدًا على حَدِيث معَارض بآيَات الْقُرْآن الْكَثِيرَة، وبوقائع تواريخهم الصَّحِيحَة، وَبني على ذَلِك إِلْحَاق الْخلَافَة بِالنُّبُوَّةِ بِمَا لبس عَلَيْهِ من ذَلِك، وَإِنَّمَا النُّبُوَّة وَخِلَافَة النُّبُوَّة هادمتان لسلطان العصبية القومية ومقررتان لقاعدة الْحق، واتباعه بوازع النَّفس، والإذعان لشريعة الرب. . وَهَذِه قصَص الرُّسُل فِي الْقُرْآن الْكَرِيم ناقضة لبنيان قَاعِدَته. وَفِي بَعْضهَا التَّصْرِيح بِعَدَمِ الْقُوَّة والمنعة كَقَوْلِه تَعَالَى حِكَايَة عَن لوط عَلَيْهِ السَّلَام: {قَالَ لَو أَن لي بكم قُوَّة أَو آوي إِلَى ركن شَدِيد} أم أَيهمْ قَامَت دَعوته بعصبية قومه؟ إِبْرَاهِيم الْخَلِيل؟ أم مُوسَى الكليم؟ أم عِيسَى الرّوح الْكَرِيم؟ أم خَاتم النَّبِيين؟ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم. . ألم تكن جلّ مزايا بني هَاشم فِي قُرَيْش الْفَضَائِل الأدبية دون الحربية؟ ألم يكن جلّ اضطهاده [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وصده عَن تبيلغ دَعْوَة ربه من رُؤَسَاء قُرَيْش؟ ألم يَكُونُوا هم الَّذين ألجئوه إِلَى الْهِجْرَة. . وهم الَّذين نزل الله فيهم {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا ليثبتوك أَو يَقْتُلُوك أَو يخرجوك} الْآيَة؟ حَتَّى هَاجر مستخفيا. . وسمى الله هجرته إخراجا - أَي نفيا وإبعادا - بِمثل قَوْله تَعَالَى {يخرجُون الرَّسُول وَإِيَّاكُم أَن تؤمنوا بِاللَّه ربكُم} حَتَّى نَصره الله تَعَالَى بضعفاء الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار. . وَمَا آمن أَكثر قُرَيْش إِلَّا بعد أَن أظهره الله عَلَيْهِم وخذلهم فِي حروبهم لَهُ. .