لَا مجَال فِي هَذَا الْمقَام لتحرير القَوْل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَلَيْسَ من الصعب بَيَان خطأ من يظنّ أَن مُعَاملَة نَصَارَى الدولة بِعدْل الشَّرِيعَة الإسلامية وحريتها هُوَ الَّذِي ألبّهم عَلَيْهَا، وَلَا إِثْبَات أَن الَّذِي ألّبهم ثمَّ أثارهم هُوَ جهل رجال الدولة وغفلتهم عَن دسائس أوربة فِي هَذِه الشعوب وَمَا بثوا فِي مدارسها وكنائسها! إِنَّمَا غرضنا من ذكرهَا أَن الشَّرِيعَة الإسلامية خير لِلنَّصَارَى فِي بِلَاد أَكثر أَهلهَا مُسلمُونَ من حُكُومَة مَدَنِيَّة لَا يتَقَيَّد أَهلهَا بأصول هَذِه الشَّرِيعَة - كَمَا كَانُوا فِي عهد الْخُلَفَاء من الْعَرَب وَكَذَا سلاطين العثمانيين - فَإِن الْفرق الْحَقِيقِيّ بَين الحكومتين هُوَ أَن الأكثرية الْمسلمَة لَا يحل لَهَا أَن تتبع هَواهَا فِي التشريع الديني، وَلَا فِي التَّنْفِيذ بِمَا يعد ظلما للأقلية غير الْمسلمَة لِأَن الله تَعَالَى حرم الظُّلم تَحْرِيمًا مُطلقًا لَا هوادة فِيهِ وَلَا عذر، وَأوجب الْعدْل إِيجَابا مُطلقًا عَاما لَا مُحَابَاة فِيهِ، وحذر تحذيرا خَاصّا من ترك الْعدْل فِي حَالَة الْكَرَاهَة والبغض من أَي فريق كَانَ بقوله تَعَالَى: {وَلَا يَجْرِمَنّكم شنآن قوم على أَلا تعدلوا اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى، واتقو الله إِن الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ} أَي وَلَا يحملنكم بغض قوم لكم أَبُو بغضكم لَهُم، قَالَ بعض الْمُفَسّرين أَي الْكفَّار، وَالصَّوَاب أَنه أَعم، على أَلا تعدلوا فيهم بل اعدلوا فيهم كغيرهم وَحذف الْمَعْمُول دَلِيل الْعُمُوم، أَي أعدلوا عدلا مُطلقًا عَاما فِي الْمُؤمن وَالْكَافِر، وَالْبر والفاجر، وَالصديق والعدو، الخ وَقَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {يأيها الَّذين آمنواكونوا قوامين بِالْقِسْطِ شُهداء لله وَلَو على أَنفسكُم أَو الْوَالِدين والأقربين، إِن يكن غَنِيا أَو فَقِيرا فَالله أولى بهما، فَلَا تتبعوا الْهوى أَن تعدلوا وَإِن تلووا أَو تعرضوا فَإِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا} أَي كونُوا قَائِمين بِالْعَدْلِ فِي الْأَحْكَام وَغَيرهَا على أكمل وَجه، كَمَا تدل عَلَيْهِ صِيغَة الْمُبَالغَة شُهَدَاء لله فِي إِثْبَات الْحق، وَمَا كَانَ لله لَا يُمَيّز فِيهِ الْمُؤمن نَفسه وَلَا الدِّيَة أَو أقرب النَّاس إِلَيْهِ على غَيرهم، لِأَن هَذَا التَّمْيِيز إِيثَار لنَفسِهِ أَو لقريبه على ربه الَّذِي جعل الشَّهَادَة لَهُ سُبْحَانَهُ، وَلَا يفرق فِيهِ الْغنى وَالْفَقِير بِأَن يحابي الْغنى طَمَعا فِي نواله أَو الْفَقِير رَحْمَة بِهِ، وقفي على هَذَا بِالنَّهْي عَن ضِدّه وَهُوَ اتِّبَاع هوى النَّفس كَرَاهَة للعدل، وبحظر اللّى ّ والتحريف للشَّهَادَة أَو الْإِعْرَاض عَنْهَا أَو عَن الحكم بِالْحَقِّ، وتهدد فَاعل ذَلِك وتوعده بِأَنَّهُ خَبِير بأَمْره لَا يخفى عَلَيْهِ شئ، دع ماورد فِي الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة من الْوَصِيَّة بِأَهْل الْعَهْد والذمة خَاصَّة، وَلَوْلَا ذَلِك لفَعَلت الحكومات الإسلامية القوية بالمخالفين لَهُم مَا فعل غَيرهم من إبادة بعض وإجلاء آخَرين عَن دِيَارهمْ أَو